الأربعاء، 20 ديسمبر 2017

الحلم النووي المصري



قال زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، أمام العاملين المشاركين في التجربة الأخيرة لصاروخ «باليستي» جديد قادر على الوصول إلى الولايات المتحدة إن بلاده «سوف تتقدم منتصرةً وتثبُ لتكون أقوى قوة نووية وعسكرية في العالم».
وقبل أن يسخر «السوشياليون»، من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، أذكِّرُهُم بأنه (كيم) كان نجمهم المفضل خلال الأسبوع الماضي، وصاحب أعلى «تريند» بسبب ردَّة فعلِهِ القوية على قرار ترامب الخاص بالقدس، حيث إنه أدان القرار ووصفه بـ«المختل عقليًّا».
أعلم أن الرئيس الكوري (الشمالي) يليق به أيضًا هذا الوصف، لكن حلمَه النوويَّ وإصرارَه على تحقيقه، موقف يستحق التأمل مثلما وَجَب علينا تحليل التجربة الإيرانية النووية، وقبلهما علينا أن نراجع تاريخنا لنعرف أن مصر تحلم بهذا «النووي» منذ أكثر من نصف قرن، وأنها بدأت طمُوحَها لتحقيق هذا الحلم مع الهند، وكان المشروعان المصري والهندي بمثابة توأمين ترعاهما علاقة وثيقة رَبَطَتْ بين الزعيمين عبد الناصر ونهرو.. أخفقت مصر ونجحت الهند، التي تستطيع الآن تصنيع محطة نووية بأكملها دون حاجة إلي خبرات خارجية، كما تملك ما يزيد على 30 قنبلة نووية، مما جعلها عضوًا في النادي النووي.
ويبدو أن مصر في عهد الرئيس السيسي قد اقترَبَتْ من تحقيق حلمها النووي القديم، مع بدء الخطوات التنفيذية لبناء أول محطة نووية بمشاركة روسية، والذي يأتي في إطار اتفاقية وُقِّعَت بين موسكو والقاهرة في نوفمبر 2015، وتم تفعيلها في زيارة الرئيس الروسي بوتين للقاهرة قبل أيام، لبناء محطة نووية لتوليد الطاقة الكهربائية في منطقة «الضبعة»، ويستغرق تنفيذ المشروع 7 سنوات، وتبلغ تكلفته المشروع نحو 29 مليار دولار، سيموّل الجانب الروسي منها 25 مليار دولار (85 في المائة من تكلفة المشروع) على شكل قَرْض بفائدة سنوية تبلغ 3 في المائة، على أن تتكفل القاهرة بما يقرب من 4 مليارات دولار.
مشروع الضبعة يحي الأمل النووي المصريّ، الذي بزغ مع إنشاء مفاعل أنشاص (التجريبي) في خمسينات القرن الماضي، وضحت من أجله أجيال من علماء الطاقة الذرية في مصر، مصطفى مشرفة وسميرة  موسى ويحيى المشدّ وسمير نجيب وسعيد السيد بدير، علماءنا الذين اغتالتهم أيادي العدو الصهيوني كي تحرم مصر من حلمها.
المثير للشفقة أن من يُحارِب اليوم بديلًا عن إسرائيل، هم قلة من أبناء مصر لعِبَتْ برءوسهم الشائعات، ومسحت ذاكرتهم الوطنية قصص وخرافات الفضاء الافتراضي، وتلقَّفَتْهم لجان «الإخوان» الإلكترونية، تحدِّثُهُم عن الغرب الذي يُغلِق مفاعلاته النووية ويبحث عن الطاقة البديلة، وبالغت في تصوير خطورة القرض الروسي، وأفتى كل من هبَّ ودبَّ في فوائد هذا القرض ووصفوه بأنه الأعلى فائدة، وكثر الكلام في كل اتجاه، زَفَّة من مفسدي الأفراح كل مساء وصباح.. «ندابة» إلكترونية، أو «بومة» فضائية، تذكِّر الناس بجوعهم وفقرهم، وأموالهم (المسروقة) التي تضيع وراء سراب نووي في الضبعة، يجاور السراب العقاري بطول الساحل الشمالي الذي أضاع فيه المصريون ثرواتهم في كتل إسمنتية بلهاء، تقضي ثلثي العام فارغةً.. شاهدةً على عُقمِ العقلية الاقتصادية المصرية.

ولهؤلاء أقول، من كلمات شاعرنا الرحل عبد الرحمن الأبنودي: «لو مش هتحلم معايا مضطر أحلم بنفسي.. لكنّي في الحلم حتى.. عمري ما هاحلم لنفسي». أنتم تجيدون خلط الأوراق وتشتيت العقل، لكن هذا الكلام لا «يخيل» على الشعب المصري (المعلم والقائد) الذي وهبه الله قدرة وعبقرية على الفرز، وعندما يتوهَّم أحد سيطَرَتَه عليه، يُفاجِئ العالمَ بمواقفه الراسخة التي تحافِظُ على الدولة المصرية وتمنُعها من السقوط، يتقدم مسيرة هذا الشعب، جيش وطني من أبنائه المخلصين، وجيوش أخرى في شتى المناحي من العاملين في كل مجالات الحياة.

الثلاثاء، 12 ديسمبر 2017

الإمام الطيب يواجه «شر» ترامب و«الترامبيين»


إن رفض مقابلة مسئول أميركي في هذا الزمان أمر - لو تعلمون - خطير في عالمنا العربي والإسلامي، فهو يضع «الرافض» على حافة الخطر لأن ثَمَن رفضِه (في الأغلب) يكون كبيرًا، وهو ما يستدعي أن يكون شخصًا استثنائيًّا، حمل قدره بين يدي خالقه، وأسلم أمره للمولى عز وجل، غير راجٍ إلا رضاه، غيرَ خاضعٍ إلا لسلطانه.
ولهذا استحقَّ الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر، اهتمامَ العالم واحتفاءَ المسلمين في كل بقاع الأرض به، بسبب موقفه المُعلَن ورفضِه القاطعِ لقبول اللقاء مع نائب الرئيس الأميركي.
ورَفْضُ «الطيب» غيرُ أيِّ رَفْض، فهو الرفض الذي أحرج الجميع ودَفَعَ من بقي في وجههِ ماء لأَنْ يرفُض أيضًا استقبالَ هذا الموفدِ الأميركي، الذي يأتي إلى منطقة الشرق الأوسط محاولاً تسويقَ قرار ترامب حول القدس، الذي كان رصاصة الرحمة على جَسَدِ «عملية السلام» الذي تحلَّل بعد تجاهله خلال السنوات العشر الأخيرة بفعل عوامل كثيرة، وظن البعض أن «سمسار العقارات» الأميركي قادر على معجزة إحياء «الجسد الميت»، وإنعاش ملف السلام وحلِّ القضية، ففاجأ الجميع بتمزيق الملف والقضية برمِّتها وحرق قلوب مسلمي العالم، وأسقط ورقة التوت الأخيرة لينكشف الحكام العرب الذين لا يملكون من أمرهم غير الشجب والتنديد.
وكان شيخ الأزهر قد أعلن رفضه «بشكل قاطع» طلبًا رسميًّا سبق أن وافَقَ عليه للقاء نائب الرئيس الأميركي مايك بنس نهايةَ ديسمبر الحالي، بعد اعترافِ واشنطن بالقدس عاصمةً لإسرائيل، واعتماد الرئيس الأميركي نقل سفارة بلاده إليها. ونقل بيان صدر، الجمعة الماضي، عن شيخ الأزهر قوله: «كيف لي أن أجلس مع مَن منحوا ما لا يملكون لمن لا يستحقونَ، ويجبُ على الرئيس الأميركي التراجع فورًا عن هذا القرار الباطل شرعًا وقانونًا».
كما وَجَّه الإمام الأكبر «نداءً عاجلًا لأهالي القدس»، قائلًا: «لتكن انتفاضتكم الثالثة بقدر إيمانِكُمْ بقضيَّتِكُمْ ومحبَّتِكُمْ لوطنِكُمْ.. ونحنُ معكَمُ ولن نخذلَكُمْ». وسبق أن حذر شيخ الأزهر من أن «أبواب جهنم» ستُفتَح على الغرب حال إقدام الولايات المتحدة على نقل سفارتها لدى إسرائيل من تل أبيب إلى القدس.
ولم يكن موقف الإمام الطيب، تجاه الأزمة الحالية في القدس، الأولَ من نوعه، فيُذكَرُ له رفضُهُ منذ تولِّيه منصبَه في عام 2010، زيارةَ القدس وهي تحت الاحتلال، وقد طالب قادة القمة الإسلامية التي عُقِدَت في فبراير 2013، باتخاذ مواقفَ موحدةٍ فيما يخصُّ مَأساة فلسطين ومُقدَّساتِنا الدينية في القُدس التي تعبث بها إسرائيل.
وناشد الإمام الأكبر، الدول المُحِبَّة للسلام الوقوفَ إلى جوار الحل العادل للقضية الفلسطينية، وحماية المسجد الأقصى من الاعتداءات المتكررة. بينما طالب شيخ الأزهر جميع الفصائل الفلسطينية بضرورةِ تحقيق المصالَحَة الوطنية، لمواجهة المخاطر والتحديات التي تواجه القدس والمسجد الأقصى والقضية الفلسطينية.
وعلى خلفية القرار الأميركي الأخير، دعا شيخ الأزهر لعقد مؤتمر عالمي عاجل لـ«نصرة القدس»، بمشاركة كبار العلماء في العالم الإسلامي ورجال الدين المسيحي والمؤسسات الإقليمية والدولية المعنية، لبحث اتخاذ خطوات عملية تبطل شرعية هذا القرار المرفوض.
وقد تنَبَّهَ الأزهر الشريف ومنذ نهاية العشرينات من القرن الماضي إلى المخطط الصهيوني الذي اختطف فلسطين، ويذكر التاريخُ لعلمائِه الفتوى الصادرةَ عنهم في عام 1947، التي وقَّع عليها 26 عالمًا من علماء الأزهر، ونَصَّتْ على وجوب الجهاد لإنقاذ فلسطين وحماية المسجد الأقصى، وذلك بعد قرار تقسيم فلسطين.
وبنى الأزهر موقفه الرافض للكيان الصهيوني والمناصر للقدس وجميع حقوق الشعب الفلسطيني، على منطلقين: الأول: حرمة السكوت على احتلال أي أرض عربية وإسلامية، ومن ثم فإن المسلمين مطالبون بالعمل والجهاد حتى تحريرها وإعادتها للأمة من جديد. والثاني: هو القيمة التي منحها الإسلام لمدينة القدس الشريف وللمسجد الأقصى الذي يُعدّ القبلة الأولى للمسلمين وثالث الحرمين، وعليه، فإن الواجب هنا يكون مضاعفًا.
ولا ترتبط مواقف الأزهر الثابتة فكريًّا مع متغيرات السياسة، فما تطرحه المؤسسة الشريفة من مواقف يعبر عن منهجها الديني، ومعايير القياس محكومة بكتاب الله وسنَّة رسوله الكريم، لا شأن لها بمنطقِ الساسة في إدارةِ شؤونِ حكمهم في كل بلد عربي، لأني ألمح متربصين بالمشهد لم يسعِدْهم الاصطفاف الشعبي الكبير حول الأزهر (جامعًا) في مظاهرة الغضب الأخيرة بعد صلاةِ الجمعة، ولا (إمامًا) الذي أحدث رفضُهُ صدمةً مضادةً لصدمةِ ترامب، وأشعرَ المسلمينَ ببعضِ العزة والكرامة، وأستشعرُ في الطريقِ حملاتٍ إعلاميةً (مأجورةً) على قلعة الإسلام الوسطي الحصينة، تبدأ بعد أن تُدفَن «قصة» القدس ويطويها النسيان خلال أيام.

حفظ اللهُ الأزهرَ وشيخَه، ووقاهما شر ترامب وأتباعه «الترامبيين» من العرب والمسلمين.

مقالي المنشور في جريدة «صوت الأزهر» بتاريخ 13 ديسمبر 2017

الأربعاء، 6 ديسمبر 2017

«مرارة» الإرهاب و طبيب «السكر»


سعدتُ بالرسالة التي وصلتني من الدكتور أشرف الشيخ استشاري الأمراض الباطنية والغدد الصماء، وصاحب مركز «أبو سيفين لأمراض السكر»، تعليقاً على مقالي السابق: «مكارثية» الأزهر.. والخوف من الله، وفتحت الرسالة بابًا لحوار أظنه مهمًّا، مع طبيب مصري مثقف ووطني، لم تقف (خانة الديانة) حاجزًا أمام تدفُّقِه بحرِّيَّة وشفافية وصدق.
بدأ د. أشرف قائلًا: «تعليقًا على مقالك الأخير، ورَفْضِك تحويلَ الأزهر إلى مؤسسة (مكارثية) ترهب المجتمع وتصبح سيفًا يقطع رقبة كل معارض أو مختلف في الرأي، أوافقك تمامًا في دفاعك عن موقف مؤسسة الأزهر الشريف (في رفضه لمبدأ التكفير)، لو كانَتْ المشكلة المثارة هي اختلاف في الرأي، والتي يمكن أن نطبق عليها المقولة الشهيرة «الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية». لكن دعني أذكِّرْك بأن الموضوع هو مأساة مسجد الروضة التي راح ضحيَّتَها 309 من المسلمين الموحِّدين بالله الناطقين بالشهادتين وهم يصلون صلاة الجمعة في المسجد، وهنا أتساءل: ما موقفُ كاتبِنا الكبير من هذه الآية، ومن آيات  تناولت الموضوع ذاته: «مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»!؟.. رأيي أن مؤسسة الأزهر  مترددة (لسبب يعلمه الله) في أخذ موقف واضح وصريح من مرتكبي الأعمال الإرهابية الخطيرة التي تهدد أمن بلادنا والمجتمع».
وكتبتُ له ردًّا قلتُ فيه: «عزيزي الدكتور المحترم، أولًا أوضِّح لك أن رفضي منح الأزهر سلطةً استثنائيةً لتكفير أيِّ مصري، هو مبدأ وموقف شخصي، والآن دَعْنِي أسأَلْك: هل سيتوقف الإرهاب لو قال الأزهر إن (الدواعش) كفار؟ أظن أن إقحام الأزهر في الموضوع هو محاولة لتشتيت الانتباه، ولكن علينا أن نمتلك شجاعة المواجهة بأنه ربما تكون هناك بعض أخطاء في المواجهة الأمنية مع الإرهاب، ولا أنكر أيضًا أن هناك أوجهَ قصورٍ في دور الأزهر، فالكمال لله وحده.
وإن كنتُ أتمنى أن نتعلَّم من الغرب في تعامله مع جرائمَ هَزَّت العالم مؤخرًا، منها مثلًا حادث لاس فيجاس،  فلم يتَّهِم أحد الشرطةَ الأميركيةَ بالتقصير، ولا عاتَبَ أحدهم الكنيسة واتهمها بأنها السبب، فالعنف أصبح موضةً عالميةً تتخذ من الدين قناعًا أحيانًا، وأحيانًا أخرى تطل بوجهها القبيح دون أقنعة. 
فما المطلوب من الأزهر تحديدًا..؟! الجميع يطالبه بتجديد الخطاب الديني.. كل العقلاء يعلمون أن هذا أمر يحتاج إلي وقت ودعم كل مؤسسات الدولة، وهو أمر يأخذنا إلى فشل التعليم كله في مصر، وهي الكارثة التي تنذر بما هو أخطر من الإرهاب، وتنبئ بمستقبل مرعب.
وأخيرًا: أكرر وأؤكد أن سقوط الأزهر كارثة كبيرة على الإسلام وعلى كل الأديان، لأنه آخر حصون الاعتدال الديني وأصدق منابر الوسطية، وتراجُعه عن دوره يمنح أرضًا خصبًا تستثمرها كل تيارات التطرف من الإلحاد إلى الإرهاب».
وجاء ردُّهُ أكثرَ حسمًا، حيث قال: «معك حق في كل كلامك الموزون المرتَّب لكن داخلي رغبة ملحَّة - و يشاركني في ذلك كثير من الأصدقاء مسلمين ومسيحيين - في أن يتخذ الأزهر موقفًا أكثر وضوحًا أو أكثر قوةً تجاهَ مثل هؤلاء القتلة المأجورين، ويمكن استخدام معانٍ تشير إلى التكفير دون إعلانها صراحةً منعًا من عواقب ذلك، كما أشرت، يمكن مثلًا أن يصدر بيانًا يقول فيه إن من يفعل مثل هذه الجرائم الشنعاء هم قتلة ليسوا بشرًا ولا مسلمين ولا يعرفون الله  ولا مصريين... إلخ، فبشاعة الجُرْم تولِّد رغبة شديدة في الانتقام من هؤلاء القتلة الذين يعجز اللسان عن وصف خستهم وشرهم».
فأرسلتُ له رابطَ فيديو، وتبعته بالتعليق التالي: «أرجو أن يتسع وقتك لتستمع وتشاهد (8 دقائق فقط)، هي زمن كلمة فضيلة الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب في مسجد الروضة خلال زيارته التاريخية إلى بئر العبد، يوم الجمعة الماضي، وقد قال كلَّ ما كتبتَهُ وطالبتَ به، وقال ما هو أكثرُ قوة، تحديدًا من نهاية الدقيقة الثانية هو يتحدث عن الإرهابيين وينعتهم بأشد الأوصاف».
فأرسل لي صديقي استشاري أمراض السكر، إشارات تصفيق وإشادة، قبل أن يختم حوارنا قائلًا: «كلمات رائعة لا بدَّ من إذاعتها مرارًا وتكرارًا، أتمنى التنبيه على الإعلام المغيَّبِ بإذاعتها عدةَ مراتٍ بدلًا من (هرتلة) أبلة فاهيتا وأخواتها».

وختامًا، شاءت الأقدار أن أُبتلَى بنزلة برد حادة حرمتني من صلاة الجمعة، فجلستُ أتابعها من مسجد الروضة عبر فضائية «dmc» سعيدًا بإعادة افتتاح المسجد بعد الحادث الأليم، فخورًا بحضور الشيخ الطيب ومعه نخبة من رجال الأزهر ورموز المجتمع، وانتهت الصلاة وهمَّ الإمام الأكبر بأن يُلقيَ كلمته المرتقبة، ولكنني فوجِئتُ بالمحطة تقطع الإرسال وتبثّ حديثًا تليفزيونيًّا قديمًا لفضيلة الشيخ الشعراوي، فاضطررت أن (أغير المحطة)، لأستمعَ إلى كلمة فضيلته، مندهشًا من هذا الموقف الذي اتخذته أحدث الفضائيات الخاصة (وأقربها للدولة المصرية)، والتي نقدر الدور الذي تلعبه في الإعلام المصري.

الأربعاء، 29 نوفمبر 2017

«مكارثية» الأزهر.. والخوف من الله


يقول الشاعر والفيلسوف الإنجليزي صامويل تايلر كولريدج‬، إن أعظم طبيب على الإطلاق هو الذي يمنحك قدرًا كبيرًا من الأمل، ولأن العظمة لله وحده، فإنه لا شريك له هو القادر على أن يمنحنا الأمل في هذه اللحظات حالكة السواد التي نعيشها بعد جريمة «البلاك فرايداي» النكراء في بئر العبد، التي راح ضحيتها 305 من الشهداء. كما أن كتابه الكريم هو «طب القلوب» التي يعتصرها الحزن ويدميها الألم، ويرعبها المقبل من أيام، والمتوقَّع من أخطار.
إن الجريمة الحقيقة التي يخلِّفها الإرهاب في نفوسنا، هي الرعب الذي يطاردنا في كل مكان نذهب إليه، واستقرار هذا الخوف في نفوس المصريين (مسلمين ومسيحيين) يساوي الموت البطيء. وكأن كل جريمة إرهابية تغتال عشرات أو مئات فإنها أيضًا تخلِّف وراءها آلافًا آخرين من الضحايا الذين يعيشون (موتى) أسرى الهلع والقلق والتوتر. ويشعل هذا الخوف ويؤججه ما تصدِّرُهُ لنا «الميديا» الحديثة من عدد كبير من الصور النمطية عن ضحايا كل حادث إرهابي، وتحدث صور الدم الكثيفة والجثث المشوهة، أثرًا سلبيًّا مفزعًا على عموم الناس، وفي مقدمتهم الشيوخ والأطفال والنساء، وذلك وفق ما تؤكده الدراسات السيكولوجية والاجتماعية، كما أن كثيرًا من وسائل الإعلام الغربية تحذِّر نشر مثل هذه الصور لإدراكها حجم الأثر السلبي الذي تُسبِّبه للمجتمع.
وأعلم أنني لا أضيف جديدًا عندما أذكر أن الإيمان بالله.. حقًّا وصدقًا، هو العلاج الأقوى والأكثر فاعلية في مواجهة «الخوف». فلا تخَفْ، لأن الخالق عز وجل قادر على أن يحميك ويحمينا من كل خطر، مهما بلغَتْ قُوَّتُه أو قدرَتُه، فالله غالب.
من حقِّنا جميعًا أن نحزن على ضحايا «مسجد الروضة»، خصوصًا الأطفال الأبرياء الذين مزقوا قلوبَنا وجعًا، ولكن لا تجعل الحزن ينسيك أنهم «شهداء عند ربهم يرزقون»، فكل رواد المسجد؛ مَن مات ومَن أصيب «كلهم حبايب ربنا».. من أهل الذكر والمحبة والتقوى.
ولا تظنَّ أن القتَلَةَ الإرهابيين هم من اختاروا لهم هذه «الموتة»، فالمولى عز وجل هو مَنْ حدد وقدَّر حتى قبل أن يُخلَقوا، وذلك علمه عنده الله.. لا تسأَلَنَّ عن السبب، كما أنه اختار لغيرهم منذ فجر التاريخ طُرُقًا آخرى للموت، منها الغرق والحرق والذبح، ومنهم من مات على فراشه (باشا).. في النهاية كلُّه موت.. وكلنا مودِّع، ولكل أجل كتاب.
وأذكركم أيضًا، فإن الذكر ينفع، بالآيات النورانية من سورة آل عمران: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (175)}.

وأهمس بالآيات السابقة أيضًا، في أُذُن من تركوا الدم وثأره، وسارعوا ليقحموا الأزهر كما تعودوا عقب كل حادث إرهابي، وصرخوا مناشدين شيخه وهيئة كبار علمائه بأن يكفِّروا كل التنظيمات الإرهابية، وبالَغَ البعض واتهم صراحة المؤسسة العريقة بأنها المتسبِّب في استمرار جرائم الإرهاب، لامتناعها عن استخدام سلاح «التكفير» الفَتَّاك (من وجهة نظرهم) الذي سيكبل فورًا أيادي هؤلاء المتطرفين، وفق التصوُّرِ الساذج الذي يروجونه.
ونسوا أو تناسوا أن كلَّ من يمتلك عقل في هذا البلد يُدرِك خطورةَ مثلِ هذا المطلب الشاذِّ، الذي سبق أن رفضه ويرفضُهُ كل المثقفين والمفكرين المخلصين، ولو كان الأزهر أو شيخه طامعين في سلطة (أو سطوة) دينية كما يشيع هؤلاء المرتزقة، لكان وافق وتحمَّس فورًا لمطلبهم، الذي يحول هذه المؤسسة الشريفة، إلى مؤسسة «مكارثية» ترهب المجتمع وتصبح سيفًا يقطع رقبة كل معارض أو مختلف في الرأي، وتنزلق المؤسسة الدينية الأهم في تاريخ الأمة الإسلامية في «سيرك السياسة»، وهو ما يتنافى مع تاريخ الأزهر الشريف ودوره الثابت والراسخ في إبعاد الدين عن هذه السراديب التي يرغب البعض في أن نُدفَن جميعًا فيها.
ونذكر أخيرًا بأن هؤلاء الإرهابيين مجرمون وفق القانون المدني الذي يحكم دولتنا، وعلى مَن يمتلك القوة العسكرية (الجيش والشرطة) أن يكفَّ أذاهم عن المجتمع باستخدام الشكل المناسب من القوة الذي يكفل الأمن والأمان لهذا الشعب المسكين، الذي شاء قدره أن يعيش هذا الزمان.
وننهي (بالعربي) عكس ما بدأنا (مع شاعر إنجليزي)، لعلهم يفهمون!!!
من إبداع الشاعر الكبير نزار قباني: «ما بين فصل الخريف وفصل الشتاءْ. ‏هنالكَ فصلٌ أسميهِ فصلَ البكاءْ. ‏تكونُ به النفسُ أقربَ من أيِّ وقتٍ مضى للسماءْ».
اللهم احفظ مصر وأهلها.

* نشر في جريدة (صوت الازهر) بتاريخ 29 نوفمبر 2017

الجمعة، 24 نوفمبر 2017

رجال حول الرسول


تُشرِق علينا أيام «ربيع الأول»، فتهِلُّ ذكرى حبيبِنا ونبيِّنا المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، نتذوَّق حلاوة عُرْس مولِدِه الذي ابتدعه الفاطميون «الشيعة»، وحوَّلَه المصريون «السُّنَّة» إلى حفلٍ سنويّ، وأصبح يُعرَف بـ«مولد النبي» يحتفون فيه على طريقتِهِم الشعبية بـ«سيدنا». ومن عباءته خرجت عشرات الموالد الأخرى التي تحتفي بأهل بيت النبوة والمشايخ والأولياء والصالحين.
وفي ذكرى «مولد النبي» تتفجَّر كرامات المحبة فتضيء القلوب، وتُلهِم العشَّاق إبداع الذكر في سيرته العطرة، وإعادة اكتشاف بواطن جمالها، ومفاتن قصصها، وعبقرية أحداثها، وكأن المسلمين في مصر (ونيابةً عن عموم مسلمي العالم) يقدمون كل عام هديةً للمصطفى في يوم مولده، على ما قدمه للبشرية، فاستحقَّ أن يكون خير البشر أجمعين، يشكِّل نصَّها القولُ المأثور: «جزاك اللهُ يا سيدي يا رسولَ الله عنا أفضلَ ما جُزِي نبيٌّ ورسول عن أمَّتِه.. فلقد بلَّغتَ الرسالةَ وأديتَ الأمانةَ، وأوضحتَ الحُجَّة وكشفْتَ الغمة، ونصحتَ العباد، وجاهدتَ في سبيل الله حق الجهاد».
وقد أكرمني الله هذا العام أن أحتفل بذكرى مولد الحبيب، في رحاب صحابته المخلصين، من خلال إشرافي على كتابة مشروع درامي عنوانه «رجال حول الرسول»، يحكي سيرة 30 من أبرز الصحابة؛ أسماء تقف أمامها مشدوهًا من فَرْط إخلاصها للعقيدة، ومن عُمق إيمانها، وتقف لها إجلالًا على عطائها لدعم خاتم المرسلين ونَشْر ما حمله له جبريل من رسائل التوحيد، والتضحية بكل نفيس، ثقةً في الله وفي رسوله الصادق الأمين.
لا أجرؤ على أن أباري كاتِبَنا الكبير ومفكِّرَنا الإسلامي الراحل خالد محمد خالد في مضماره، فهو الأسبق والأحق بهم؛ فقد قدم للمكتبة العربية كتابًا حمل هذا العنوان، غُزِل بحروف من نور في مقدمته بعض الكلمات الخالدة: «فالعظمة الباهرة التي نراها على صفحات هذا الكتاب لأولئك الرجال الشاهقين من أصحاب الرسول ليست أساطير، وإن بَدَتْ من فرط إعجازها كالأساطير!! إن التاريخ لم يشهد رجالًا عقدوا عزمهم ونيَّاتِهم على غاية تناهت في العدالة والسمو، ثم نذروا لها حياتهم على نسق تناهى في الجسارة والتضحية والبذل، كما شهد أولئك الرجال حول الرسول».
وقد ذكر بعض العلماء أن عدد الصحابة الذين تُوفِّي الرسول عنهم مائة وأربعة عشر ألفًا، وقال السيوطي تعليقًا على هذا القول: «هذا لا تحديدَ فيه، وكيف يُمكِن الاطلاع على تحرير ذلك مع تفرق الصحابة في البلدان والبوادي والقرى؟!».
ويتقدم صحابة النبي، العشرة المبشرون بالجنة، ومن بعدهم علماء ومقاتلون أشداء، وآخرون حظوا بشرف الشهادة، كما تمنوا ودعوا الله في غزواتهم وفتوحاتهم، وقد مَيَّز الرسول بعض صحابته وخَصَّهم بصفات مميزة، كما روى أبو سعيد الخدري قائلاً‏:‏ قال رسول الله: «أرحم أمتي بها أبو بكر الصديق، وأقواهم في دين الله عمر بن الخطاب، وأصدقهم حياءً عثمان بن عفان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، وأبو هريرة وعاء للعلم».
وفي رحلتي الثرية بين قصص الصحابة الخالدين، لا أخفي أني تعرفت على أسماء عظيمة، تعلمتُ من سِيَرِهم ما لا تسعه السطور ولا تستوعبه العقول، وأكثر من استوقفتني سيرتهما كانا «العاصَيْن»، اللذين عاشا صباهما في كنف الرسول بالمدينة ابنين لاثنين من أعز وأكرم الصحابة؛ عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص، وقد أكرم الله ابنيهما بأن غَيَّرَ لهما رسول الله اسميهما فكانا كلاهما «عبد الله».
وكان موقفهما (عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو) من أحداث «الفتنة الكبرى» التي أشعلت تاريخ الإسلام، ولا تزال، أشدَّ ما استوقفني في سِيرتِهما العطرة، وكيف نأيا بنفسيهما عن هذا الهلاك، رغم أن أحدهما ابن واحد من صناعها (عمرو بن العاص)، والثاني (ابن عمر) رُشِّح بقوة ليكون خليفة المسلمين (خلفًا لأبيه) ثم حَلًّا وسطًا ارتضَتْه أطراف الفتنة في أكثر من موقف، ولعلَّ أبلغ ما تُوصَف به أزمة الأمة الإسلامية حتى اليوم، هو ما قاله ابن عمر رضي الله عنهما، قال: «إنما مثلنا في هذه الفتنة كمثل قوم يسيرون على جادَّة يعرفونها، فبينما هم كذلك، إذ غشيتهم سحابة وظُلمَة، فأخذ بعضهم يمينًا وشمالاً، فأخطأَ الطريق، وأقمنا حيث أدركنا ذلك».

إن الرجال حول الرسول، كانوا «أعظم ثُلَّة ظهرت في دنيا العقيدة والإيمان»، كما وصفهم خالد محمد خالد، «أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ»، كما قال عنهم المولى عز وجل. وما عبقرية الرجال، إلا استلهامًا وتأكيدًا على عبقرية القائد، «أيَّ معلم كان.. وأيَّ إنسان! ».. محمد بن عبد الله، النبي الأمِّي الهادي البشير الذي التفَّت حوله القلوب وصلَّى الله عليه وسلم. لا نملك في ذكرى مولده العطرة إلا أن ندعو الله أن يلِمَّ شمل أمته، لتستحق أن تُنسب له وتكون (أمة محمد).. اللهم ارزقنا منحةَ استغفارِهِ ووداده وشفاعتَه.



*نشر في جريدة "صوت الأزهر" بتاريخ 22 نوفمبر 2017

الخميس، 16 نوفمبر 2017

مباراة مرتقبة بين السعودية وإيران على «ملعب لبناني»


استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، التي تقَدَّم بها عبر رسالةٍ متلفزة، والتي بُثَّت من قصر (الحريري) المنيف في حي التخصصي، أرقى أحياء الرياض، في 4 نوفمبر الماضي، أوضحت أن القَدَر اختار لبنان ليستضيفَ صدامًا وشيكًا بين قطبَيْ السنة والشيعة في الشرق الأوسط؛ السعودية وإيران، في مباراة مرتقَبَة تحفِّز عليها إدارةُ ترامب بكل الوسائل كي تتم وفق ما تتمنى، لتقضي على أهم قوتين إسلاميتين بالمنطقة، وتصبّ النتائج في مصلحة إسرائيل؛ حليفتها المقدسة.
وسواء أُجبِر الحريري على استقالته ثم إقامته التي تَلَتْ هذه الاستقالة محتجَزًا بالمملكة، كما أُشِيع، أو أن دوافِعَه وطنية خالصة، وأن الشكل البائس الذي خَرَجَتْ به الاستقالة كان مردُّه إلى أسبابٍ أمنية تتعلَّق بحياته، بعد ما قِيلَ عن محاولة اغتيالٍ فاشلة تعرَّضَ لها، فإننا أمام تصعيد سياسي للداخل اللبناني الذي لا يحتمل أيَّ لفحةِ حرارةٍ؛ فهو مشتَعِل من تلقاءِ ذاته، ويستعدُّ للانفجار في أي لحظة ومنذ سنوات، بسبب التقسيمات الطائفية والانقسامات المذهبية وألعاب السيرك الإقليمي التي تمارَس عبر قواه السياسية بفعل أجهزة مخابرات من دول عدة، أبرزها سعودي وإيراني وإسرائيلي وتركي وأميركي، ونتمنى أن تكون مصر حاضرةً في هذا المحفل الإقليمي المخابراتي بأي صيغة متاحة ومناسبة لا توتِّر أيًّا من علاقاتها مع أطراف النزاع.
ويأتي التصعيد على الساحة اللبنانية متزامنًا مع واقعة «الصاروخ» الحوثي الذي أسقطَتْه السعودية وطال بعضُ حطامِه مطارَ الملك خالد في الرياض، في سابقةٍ هي الأولى من نوعها التي تتعرض فيها العاصمة السعودية لمثل هذا الاعتداء العسكري الجوي، وهو الأمر الذي دفع المملكة للتحرُّك الفوري والتصعيد الظاهر والمستتر ضد إيران، المتهم الأول بالضلوع في إمداد المتمردين الحوثيين باليمن بمثل هذا السلاح المتقدِّم، وذلك عبر وسيط خفيّ هو حزب الله اللبناني، الذي تنتشر عدد من قياداته العسكرية باليمن لتدريب المتمردين ودعمهم عسكريًّا، وهذا ما فرض اسم لبنان كـ«ملعب» صريح لمعركة مرتقَبَة، ومباراة تأخر لعبُها سنواتٍ.
وتتنافس المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، منذ عقود، على قيادة المنطقة دينيًّا تحت اللواء الإسلامي؛ فالسعودية هي المرجع الديني الأبرز عند السنَّة والشيعة لوجود الحرمين داخل حدودها، وهو ما منحها ثِقَلًا إسلاميًّا كبيرًا حافَظَتْ عليه طوال ما يقرب من قرن، وترى إيران أحقيَّتَها بهذا الدور لا سيما بعد أن أعلنت الجمهورية الإسلامية، عقب ثورة الخميني في عام 1979، ومنذ هذا التاريخ تُجاهِد دولُ الخليج السعيَ الإيرانيَّ إلى «تصدير» الثورة إلى بلدانهم.
ثم تكشف إيران أكثر عن طموحها التوسعي القبيح بعد موجات الثورات العربية عام 2011، فتُضطَرّ الرياض إلى أن تُرسِل ألف جندي إلى البحرين لقمع الحركة الاحتجاجية التي شكل الشيعةُ مِحورَها، ثم تتصاعد المواجهة بين طهران والرياض في الملفّ السوري. وفي مارس 2015، تطلق الرياض عمليةً عسكريةً، لمنعِ المتمردينَ الحوثيين الشيعة المتهمين بتلقي دعم من إيران، من السيطرة على كل اليمن (غالبية سنية) المجاور للسعودية. وفي يناير 2016، أبدت طهران استياءها الشديد من إعدام الرياض رجل الدين الشيعي المعارض الشيخ نمر النمر، وفي اليوم التالي قطَعَتْ الرياض علاقاتها الدبلوماسية مع طهران بعد مهاجمة سفارتها في العاصمة الإيرانية.
وفي أكتوبر، هذا العام، ترحِّب المملكة بقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعدم المصادقة على التزام إيران بالاتفاق التاريخي حول برنامجها النووي الذي وقَّعَتْه طهران مع ست دول كبرى في 2015، ذلك قبل أن يتأزم الوضع في نوفمبر بالصاروخ الحوثي واستقالة سعد الحريري، التي ربما يتراجع عنها تحت ضغط شعبي ودولي، وربما يُجبَر على التمسُّك بها  ليدخلَ لبنان نفقًا مظلمًا، خصوصًا مع القطيعة الاقتصادية التي تنتويها دول الخليج.

حفظ الله لبنان، وثقتنا كبيرة في شعبه العريق وقدرته على التأثير والتغيير، فالشعب اللبناني أقوى من أي فوضى سياسية وأكثر قدرةً على الحياة من شعوب أدمَنَتْ الموت.

* نشر في صحيفة «صوت الأزهر» بتاريخ 15 نوفمبر 2017

الخميس، 9 نوفمبر 2017

«ماركت» الأفكار.. المستقبل في «منتدى»


لا شكَّ أن حدثًا بضخامة «منتدى شباب العالم» الذي أُقِيم في مدينة شرم الشيخ المصرية في الفترة من 4 إلى 10 نوفمبر 2017، يستحقُّ التوقُّفَ أمامَه بإعجابٍ لا يكتمل إلا بالتقييم والنقد، خصوصًا مع ما طرحه من أفكار وموضوعات جعلَتْه أشبهَ بـ«سوق» عالمية للأفكار أو ما يمكن أن نَصِفَه بالإنجليزية «A Global Market for Ideas»، حيث قُدِّمَت خلال أيام المنتدى سلَّة كبيرة ومنوَّعة من العناوين الطازجة، ناقشها وتبادل الرأي فيها 3000 شباب من مختلف دول العالم صاغوا حولها رؤيتَهُمْ وتصوُّرَهم للمستقبل، وأظنّ أن تحديد أجندة المنتدى قد استغرَق وقتًا وجهدًا كبيرًا من اللجنة المنظِّمة لهذا الحدث الأبرز في تاريخ الشباب حول العالم.
وقد نجَحَت هذه الأجندةُ الدسِمَة في جمع أشتات من العناوين المتباعدة ودَمْج كل ألوان الطيف من الموضوعات التي تشغل عقول المشاركين من قارات العالم الست، ومن دول تخطى عددها المائة، ووصل إلى 113 دولة، واقترب أن يماثلَ عددُ ما تمَّتْ محاكاته في المنتدى «نموذجًا للأمم المتحدة».
وتمحوَرَتْ فعاليات المنتدى وجلساتُه حول أربعةِ محاورَ رئيسية هي:
1- محور التنمية المستدامة والتكنولوجيا وريادة الأعمال.. (وتفرَّع إلى موضوعات، منها:  تجارب دولية لتحقيق استراتيجيات التنمية المستدامة، تقنيات الذكاء الاصطناعي وتأثيره على الشرق الأوسط، التجربة المصرية في استضافة اللاجئين، الفرص الاستثمارية للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، دور المرأة في دوائر صناعة القرار).
2- محور قضايا شبابية عالمية.. (وتفرع إلى موضوعات، منها: التأثير السلبي للهجرة غير المنتظمة على الشباب حول العالم، الحوار بين الأجيال، إعادة بناء مؤسسات الدولة في مناطق الصراع، المسئولية المجتمعية والعمل التطوعي للشباب).
3- الحوار الحضاري والثقافي.. (وتفرع إلى موضوعات، منها: اختلاف الحضارات والثقافات.. صدام أم تكامل؟! كيف تصلح الآداب والفنون ما تُفسِدُه الصراعات والحروب، دور حرية الصحافة في بناء الدولة، دور السينما في مواجهة التطرف، أثر الحروب والنزاعات في اختفاء هوية الشباب).
4- صناعة قادة المستقبل.. (وتفرع إلى موضوعات، منها: كيف يصنع العالم قادته؟ استعراض التجربة المصرية في صناعة المستقبل «عرض عن البرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب للقيادة والأكاديمية الوطنية لتدريب وتأهيل الشباب»، حقائق تاريخية في صناعة القيادات، تعزيز مشاركة الشباب في صنع واتخاذ القرار).


وظهر المنتدى بصورة مشرِّفَة، ونجاح مشهود متأثرًا بما حمله (المنظمون) من تراكم خبرات اكتسبوها عبر تنظيم أربعة مؤتمرات شبابية خلال عام واحد في شرم الشيخ وأسوان والإسماعيلية والإسكندرية، وأحدها كانت صاحبة الفضل في ميلاد هذا المنتدى كتوصية صادرة عن المؤتمر الوطني للشباب.
وتجتمع هذه المؤتمرات المحلية، وكذا المنتدى العالمي، في أنها تحمل عناوين وأفكارًا وموضوعاتٍ نخبويةً لا تقترب من شباب «التوك توك» ولا تمسّ سكان الحواري والنجوع الذين يمثلون السواد الأعظم من شباب مصر، والذين لم ينتقل طموحهم خارج الدوائر الثلاث الشهيرة (المغلقة عليهم منذ عقود): الفقر والجوع والمرض، والذين سيستفزُّهُم تكاليفُ استضافة وتنظيم هذا المنتدى المهمّ، حتى لو تمت الإشارة إلى أن الدولة لم تُنفِقْ عليه.
كان ضروريًّا أن يُحدِّثَهم أيّ من المسئولين أو يناقشهم أي من الإعلاميين عن أثر وأهمية حدث بضخامة «منتدى عالمي» في هذا التوقيت الذي يزلزل الإرهاب فيه أرجاءَ العالم، وتعصف الحروب والنزاعات والصراعات بمحيطنا الإقليمي، وتطحَنُنا داخليًّا مصاعبُ اقتصاديةٌ قاتلة، وتحرق نيران الغلاء ما تبقى في نفوسنا من أي أمل في المستقبل، كان مهمًّا أن يشرح أهل النخبة لهؤلاء البسطاء ما سينفعهم من هذه السوق الفكرية الكبيرة، ما القيمة المضافة التي ستغير حياتهم بعد هذا الجمع الغفير الذي شغل الدولة بكل مؤسساتها ومقدراتها لمدة أسبوع كامل، وشهور أخرى سبَقَتْه في الإعداد له..؟!

من حقِّهِم أن يفهموا ويقتنعوا كي يشاركونا فرحتَنا بهذا الإبهار وهذا النجاح الكبير الذي تحقق في شرم الشيخ، والذي يستحقُّ أن يتحول إلى عرس سنوي تحتضنه مدينة السلام، التي مثل لها المنتدى «قُبلَة» حياة، فاسترجعت جزءًا من بريقها وسحرها.. وشبابها.

* نشر في صحيفة (صوت الأزهر) بتاريخ 8 نوفمبر 2017



الخميس، 26 أكتوبر 2017

إن كان في أرضك مات شهيد



من ماتوا في طريق الواحات لن يكونوا آخر الشهداء، قائمة الشرف تنتظر المزيد من الأبطال، الحرب مستمرة والمعركة لن تتوقف والإرهاب وَجَّه كل مقدراته إلى مصر بعد أن قُطِعَت أوصاله في سوريا والعراق، ولا تزال ليبيا عارية من سلطة مركزية تستر أمننا القومي وتحمي حدودنا من تسلُّل السلاح والعتاد والمارقين المأجورين الذين تمولهم «أم الإرهاب» ودوحته، وحمى الله قواتنا الجوية، وقوات حرس الحدود الذين تصدوا لبعض شرور كادت تأتينا عبر حدودنا الغربية المفتوحة مع الجماهيرية السابقة.
في أكتوبر، شهر البطولة والملحمة العظيمة في 1973، تستعر نار الغدر وتُغتال أحلام الفجر، وتثكل الحبيبات.. الأمهات والزوجات.. ويتيَتَّم الأبناء والبنات، وتخفت أصوات الأغنيات الفَرِحَة، ويبقى صوته وحيدًا يصدح ويقاوم آهات البكاء والنحيب؛ تبقي «مدد» هي اللحن الصافي والدواء الشافي، أغنية الموسيقار محمد نوح التي كان يردد بحماسة في مطلعها من كلمات الشاعر إبراهيم رضوان: «إن كان في أرضك مات شهيد.. في ألف غيره بيتولد.. مدد.. مدد».
كان الحزن قد اجتاحنا بقسوةٍ قبل أيام، بعد أن أعلنَتْ وزارة الداخلية في بيان رسمي، السبت الماضي، استشهاد 16 من رجال الشرطة في حادث الواحات، بينهم 11 ضابطًا، بالإضافة لـ13 من المصابين، أثناء مداهمات قامت بها القوات لعناصر إرهابية في إحدى المناطق بالعمق الصحراوي بالكيلو 135 بطريق (أكتوبر - الواحات) بمحافظة الجيزة.
إلا أن الله قَدَّر أن يتبدد سواد سحابة الحزن؛ فالأرض التي ترويها دماء طاهرة تُنبِتُ وتُثمِر خير الأشجار، ومن طَرْح هذه الأرض الطيبة من شاهدتُهُ في لقاءات تلفزيونية يتحدث وعرفت قصَّتَه التي كنت أجهلها؛ إنه الشاب المصري شريف سيد مصطفى، الطالب في السنة الأولى بكلية الصيدلة جامعة الأزهر، الذي توِّج بالمركز الثاني في المسابقة العالمية «تحدي القراءة العربي»، التي أُقيمَت تحت رعاية الشيخ محمد بن راشد نائب رئيس دولة الإمارات رئيس الوزراء حاكم دبي. وقد نجح شريف (ممثل الأزهر) في الوصول للتصفيات النهائية بعد منافسة مع أكثر من 7 ملايين و400 ألف طالب وطالبة من 41 ألف مدرسة شاركت في التحدي على مستوى 25 دولة، ووصل إلى التصفية النهائية التي جرت في دبي بين أعلى 16 متسابقًا خضعوا لاختبارات شفهية وتحريرية أمام لجنة التحكيم، وفق معايير خاصة.
وقد حَظِي شريف بشرف مقابلة الإمام الأكبر هذا الأسبوع، ليهنئه ويبارك له نجاحه وتميزه في تمثيل الأزهر الشريف، فقد كان نموذجًا يفتخر به كلُّ مصري؛ نموذجًا صحيحًا وصادقًا لخريجي مدرسة الأزهر الفكرية والثقافية والتنويرية، التي صقلت عقل الطالب الأزهري شريف وأسهمت مع أسرته العظيمة في خلق شخصية متميزة لشاب مصري ينتظره الكثير في مستقبله، وأدعو الله أن ييسر الطريق أمام الحلم الذي أعلنه وأذاعه على الدنيا كلها، حيث تمنَّى أن يدرس الطب في الخارج، وأن يتخصَّص في المخ والأعصاب ويتعهَّد بثقة الحالم الطموح بأن يحصل على جائزة نوبل بمشيئة الله.

لا أظن أن شريف يبالغ في أحلامه، فالفتى القاهري الذي يقرأ 100 صفحة في 6 دقائق معتمدًا على قراءة العين السريعة، والذي حفظ القرآن الكريم في 3 أشهر بعد أن تعلم التجويد (حفظ القرآن بالقراءات العشر)، كما حفظ صحيحَيْ البخاري والمسلم في 40 يومًا، هو نفسه المحاور البارع الذي ظهر في أكثر من لقاء تليفزيوني واثقًا من نفسه ومن أحلامه، حتى إنه أسعدنا في إنشاده الديني الطيب الذي يعكس تسامحًا وتسلحًا في شخصيته يجعلانه مع أقران له يثمرون في أرض مصر الطيبة ويزهرون في كل ربوعها، محاربين أشداء في مواجهة سرطان الإرهاب في كل مكان وزمان.
شكرًا شريف لقد جفَّفْتَ دموعنا، ورسمت «ابتسامة أمل» فخفت أوجاعنا.
وإن كان في أرضك مات (شهيد).. في ألف (شريف) بيتولد..



* نشر في جريدة (صوت الأزهر) بتاريخ 25 أكتوبر 2017

الأربعاء، 25 أكتوبر 2017

«كتاكيتو» في الساقية.. ومحبة لا تنتهي



كتبتُ هذا المقال قبل 6 أشهر، وسقط مني سهوًا وسط صخب الحياة وزحامها وصراعاتها التي لا تنتهي، ولأنني كتبته من أعماق قلبي، حسمتُ أمري، وقررتُ أن أرسله وأهديَه إلى كل القلوب التي تقاتل من أجل أن تحتفظ بداخلها بمساحة بيضاء، تزرع فيها ورود الحب والحلم بألوانها الزاهية، لترسم لوحة مشرقة للحياة. 
كان يومًا مؤثرًا في حياتي، استيقظت وقلبي (العجوز) يتراقص بشغف غير معتاد في سنواته الأخيرة، وأصابتني حيرة في اختياري لما أنوي ارتداءه لحضور حفل افتتاح مهرجان الساقية للأفلام القصيرة في دورته الـ14 التي عقدت يومي 19 و20 أبريل 2017، حتى حسمتُ اختياري بأن أستعيد بعض شبابي وأرتدي «تي شيرت» أبيض مع «جاكيت» زهري مع بنطالي «الجينز».
كنتُ قد تلقيتُ قبلَها بأيام خبر مشاركة الفيلم الأول لشقيقي الأصغر محمود في فعاليات المهرجان بسعادة كبيرة، حيث إن لجنة المشاهدة قد اختارت فيلم «كوابيس منتصف العمر» (الذي دُفِعتُ لكتابة السيناريو له بحكم الأخوة) مع 21 فيلمًا آخر من بين 58 فيلمًا تقدَّمَتْ للمشاركة في المهرجان، والفيلم مأخوذ من إحدى حكايات «زوربا في شبرا» كتابي الأخير الذي سطع وجوده على أرفف المكتبات مع مطلع عام 2017 في معرض القاهرة الدولي للكتاب، محققًا بفضل الله توزيعًا ورواجًا طيبًا.
تداعت الذكريات في رأسي وأنا جالس في قاعة العرض بجواري شقيقي وأبي وأمي وصغيري مصطفى، وتوقف الشريط عند أبريل 2003 (قبل 14 عامًا بالتمام)، وقتها كنت قد أكتب تجربتي الروائية القصيرة الأولى فيلم (كدبة أبريل)، بعد أن قررتُ مغادرة خشبة المسرح التي رسَّخَتْ عشقي للدراما، والتي قضيتُ عليها سبع سنوات، أتعلم من كواليسها داخل الجامعة وخارجها، مثلت وأخرجت في طريقي نحو التأليف الدرامي، وحصدت جوائز مختلفة ممثلًا ومؤلفًا، وكنتُ أتمنى أن أكمل رحلتي مسرحيًّا، لكن هوس السينما اختطفني، وبدأت محاولاتي الأولى بتشجيع صديق عاشق حقيقي للفن السابع، هو رفيق العمر «صاحب السعادة» المخرج محمد مراد نجل، الراحل أستاذنا ممدوح مراد الذي يُعدّ واحدًا من أهم مخرجي الدراما التاريخية في العالم العربي، الذي كان بيته وسهراتنا معه مدرسة خاصة تعلمنا فيها الكثير من فنون الحياة، وفي هذا البيت الفني وُلِدَت مشاريع كثيرة بيني وبين مراد الأب والابن، أنجزنا القليل منها وتعثر الكثير، وكان أكثرها نضجًا هو فيلم «أغنية الموت» الذي تحمس له النجم الكبير محمود حميدة، وبدأنا معه جلسات عمل على الورق عام 2002، قبل أن يختطفه المخرج يوسف شاهين، ليقوم ببطولة فيلمه «إسكندرية - نيويورك»، ويموت المشروع إكلينيكيًّا، ويسبب لنا إحباطاً كبيراً، وفي محاولة للمقاومة ولد فيلم «كدبة أبريل» من رحم الأحداث الصاخبة والساخنة التي تزامنت مع أيام سقوط بغداد، التي بدأت في 20 مارس 2003 وتفجرت في التاسع من أبريل عندما دخلت القوات الأميركية العاصمة العراقية.
كتبتُ الفيلم بكل جوارحي، وصببتُ فيه جام غضبي على هذه اللحظة الملعونة، كان وقتها الشارع يغلي والقاهرة تخرج عن بكرة أبيها في مظاهرات غير مسبوقة دخَلَتْ للمرة الأولى (في عهد مبارك) إلى ميدان التحرير، وتصاعد العنف مع بدء جلسات العمل بيني وبين صديقي محمد مراد للتجهيز للفيلم الذي قررنا أن ننتجه معًا، ويبدو أن الحالة العامة التي كنا نعيشها في مصر، وما كنا نمر به على مستوانا الشخصي قد جعل أعصابنا مشدودة، لهذا ومع أول خلاف دب بيننا اختطفتُ السيناريو وخرجتُ مقررًا أن أكتفي بصداقتي مع محمد مراد، وأن أنتبه لحياتي بعيدًا عن أحلام الدراما في المسرح أو السينما أو التلفزيون.
وألقيتُ بسيناريو أول فيلم مكتمل من تأليفي في سندرة الأحلام المؤجلة، حتى أذِنَ الله بخروجه للنور بعد أكثر من عشر سنوات، ليس كشريط سينمائي ولكن كجزء من كتابي «النصوص الممنوعة - حلاق مصر» عام 2015، الذي ضم نصَّيْن دراميين آخرين كانا يجاوران «كدبة أبريل» في السندرة ذاتها. ولم يمُتْ عشق الدراما خلال السنوات التالية التي أعقبت «سقوط بغداد»، وأدخلَتْنا جميعًا - معشر العرب - إلى نفق «السقوط الجماعي»، لكن تجمَّدَت الأحلام مؤقتاً مع وصولي إلى عقد «الثلاثين» من عمري، وما صاحب هذا من أحداث مصيرية في حياتي، مثل الزواج ثم دخولي إلى فضاء الإعلام السعودي عام 2004 ثم وفاة شقيقتي عبير (رحمها الله) بسبب إصابتها بسرطان المخ مع مطلع 2005، ثم ترحالي بين الرياض ولندن وصولًا إلى القاهرة من جديد، وفي 16 أغسطس 2007، حصلت على لقب «أب» للمرة الأولى، و من يومها انقلبت حياتي.
وما بين 2007 و2017، جاهدت في أن أسرق بعض الوقت لمحبوبتي (الدراما)، وتراكمت مشاعري وترجمت إلى أعمال درامية معطلة، لم أجد الوقت الكافي لتسويقها بالشكل المناسب، بسبب طبيعة عملي الصحفي، فلديَّ 3 مسلسلات تبحث عن منتج هي: «رئيس التحرير»، و«إياك من حبي»، و«مقام صبا»، ومشروعا رواية وفيلم «الكوبانية» ينتظران الوقت حتى أتمهما، وهناك نص مسرحي يبحث عن فرقة تتحمس وتغامر في ظل اختفاء جمهور المسرح، وحالة التربص المستمر بالإبداع التي تخيم على مناخ الفن المصري، وأخيرًا عشرات الأفكار التي أظن أنها جيدة، توقفت عند مرحلة «القصة»، وما زالت تنتظر الفرصة لمزيد من التطوير حتى تخرج إلى النور.

وقفت بين فواصل الأفلام المعروضة في المهرجان، ألتقط أنفاسي أمام «كانتين» الساقية، وطلبتُ بعض القهوة وجال بصري يبحث عن شيء مناسب لآكله، وكانت سعادتي كبيرة عندما لمحتُ بين الحلويات، شيكولاتة «كتاكيتو» التي كانت دُرَّة تاج مصانع «الشمعدان» الشهيرة في الثمانينات من القرن الماضي، واختفت سنوات طويلة قبل أن تعود لتذكِّر جيلي بأحلى طعم وأجمل أيام، وقفت ألتهمها بفرحة طفولية تناسَبَتْ مع سعادتي بعودة الروح لحلمي مع الفن، نعم عودة الروح من ثقب قاعة (صغيرة) أسفل كوبري في الزمالك، ومن مهرجان لأفلام (قصيرة) يقل عمره، عن عمر مشروعي الفني، هذا المشروع الذي عاد ينبض من جديد مع «كتاكيتو» ليستكمل ما اتصل من محاولات، أملًا في ميلاد حقيقي لـ«واحد بيحب الحكاية».

الاثنين، 23 أكتوبر 2017

«علشان تبنيها».. صوتنا للسيسي



تتَّفِق أو تختَلِف مع الحملات الشعبية التي تطالب الرئيس عبد الفتاح السيسي بالترشُّحِ لفترة رئاسة ثانية (وأخيرة وفق الدستور الحالي)، لكنك لن تستطيع أن تُنكِر أن هذا الحراك الشعبي يؤكد رغبةً صادقةً عند بعض المصريين في استمرار «قائد الجيش» الذي خَلَع بزَّته العسكرية ليُنقِذَ الوطن من فوضى عمَّت البلاد، ويترشح رئيسًا مدنيًّا لجمهورية مصر العربية ليطرد (ويطارد) جماعة مارقة طمعَتْ في السلطة، وكادت تقبض عليه، لتحكُمَنا بالفاشية الدينية، وتستلهم كهنوت التجربة الإيرانية (الملهمة لهم)، لتضع مصر تحت ولاية المرشد، وتختطف أقدم حضارة عرفتها الإنسانية لتحبسها في «الحرملك».. قفص حريم الخليفة التركي «أردو.. غان».
بالطبع لا نستطيع أن نتجاهل وجود حملات (إلكترونية) مضادَّة، مدفوعة ومأجورة لأهداف معروفة، تتخذ شعارات مناهضة للرئيس ونظام حكمه، لكنها لا ترتقي لمرحلة التحول إلى «حملة شعبية» معارِضَة، ولهذا أسباب متعددة، أهمها: أن شعبية الرئيس لا تزال مرتفعة، تتأرجَح في منطقة ثابتة، متوسطها يعطيه أفضلية أمام أي مرشح محتمل، رغم ما يعانيه المصريون معيشيًّا خلال العام الأخير، بسبب سياسات الإصلاح الاقتصادي التي تنتهجها حكومة شريف إسماعيل، ورغم الإحباط العام بسبب غياب الحياة الحزبية، وضَعْف الأداء البرلماني، وهو ما يمنع أيَّ أمل في أي تطور سياسي يمكن أن تشهده مصر في المستقبل المنظور.
يراهن السيسي على ما تَحَقَّق من إنجازات على الأرض؛ من حركة تشييد وعمران واسعة، وتطوير وتمهيد لشبكة الطرق في كل ربوع مصر، وظهور الملامح الأولى لمشروع العاصمة الإدارية الجديدة، يراهن على وضع بذور لإصلاح اقتصادي حقيقي بعيدًا عن مسكِّنَات العهود الماضية التي أوصلت الدولة إلى حافة الانهيار الاقتصادي، يراهن أيضًا على نجاح سياساته الخارجية سواء دوليًّا أو إقليميًّا أو عربيًّا،  وبرز هذا النجاح في التوازن السياسي بين أميركا وروسيا، وفي تشكيل تحالف استراتيجيٍّ عربيٍّ يجمع مصر مع السعودية والإمارات والبحرين، نجح في مواجهة وتقويض دولة قطر المارقة وحاكمها الممول الرئيسي للإرهاب والداعم لكل التنظيمات الدينية الراديكالية، والمتواطئ مع كل الطامعين.. الطامحين في ثروات المنطقة وعلى رأسهم تركيا وإيران «الشريفة»!!
وفي ظنِّي أن أهم إنجاز في سنوات حكم الرئيس، كان الاهتمام الكبير بالشباب، الذي ترجَمَتْه الرئاسة في برنامج تدريبيٍّ ومؤتمرات دورية يصدر عنها توصيات تتم متابعة تنفيذها بآليات عصرية متطورة، وتُوِّج هذا الجهد بالقرار الجمهوري الذي صدر قبل ثلاثة أشهر بإنشاء الأكاديمية الوطنية لتدريب وتأهيل الشباب، والتي تهدف إلى تحقيق متطلبات التنمية البشرية للكوادر الشبابية بجميع قطاعات الدولة والارتقاء بقدراتهم ومهاراتهم.
وتعد حملة «عشان نبنيها» أبرز الحملات الشعبية المطالبة بإعادة انتخاب السيسي رئيساً، وعددت في دعايتها بعض من إنجازات تمت خلال فترة حكمه، ومنها: القضاء على فيروس الكبد الوبائي (سي)، وارتفاع احتياطي النقد الأجنبي لمعدَّل غير مسبوق منذ قيام ثورة يناير 2011، حيث تخطى 36 مليار دولار، وبداية عصر الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي، وأخيرًا الاهتمام الواضح بتسليح الجيش المصري وتطوير معداته ورفع كفاءته التدريبية.

ورغم قرب الموعد، فإنه لم يُعلِنْ أحد رغبةً مؤكدةً للترشُّحِ لمنصب رئيس مصر (بما في ذلك السيسي)، ومن المفترض أن تتم الدعوة لانتخابات الرئاسة المصرية في فبراير 2018، وينص الدستور المصري على أن من شروط الترشح أنه «لا بد أن يحصل المرشح على توكيلات من 20 عضوًا على الأقل من أعضاء مجلس النواب. أو ما لا يقل عن خمسة وعشرين ألف مواطن ممن لهم حق الانتخاب في خمس عشرة محافظة على الأقلّ، وبحد أدنى ألف مؤيد من كل محافظة. وذلك على النحو الذي ينظمه القانون». وفي كل الأحوال تبدو المعركة الانتخابية محسومة لصالح اختيار الشعب، وهو عبد الفتاح السيسي ليُكمِلَ ما بدأ من عملية بناء لمصر الحديثة تحت شعاره الأثير.. «تحيا مصر».

*نشر في جريدة «صوت الأزهر» بتاريخ 18 أكتوبر 2017

الجمعة، 13 أكتوبر 2017

لنفرح بعودة غزة


في منتصف أغسطس من العام الحالي تمكَّنَ عشرات الأطفال الفلسطينيين (أعمارهم بين 8 و14 عامًا) من قطاع غزة من زيارة القدس للمرة الأولى في حياتهم، في إطار برنامج تبادل تقوم به وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وهي إحدى الوكالات التابعة الأمم المتحدة. وقد أفاد مراسل وكالة الصحافة الفرنسية بأن الأطفال صَلَّوا في المسجد الأقصى، والتقطوا صورًا قبل أن يغادروا، وكانوا «فرحين للغاية».

لا أدري لماذا دَمَعَتْ عيناي عندما قرأتُ هذا الخبر، مثلما تدمع حزنًا كلما نَظَرْتُ إلى ديواني الثاني «حدوتة بنت اسمها.. فلسطين» الصادر عام 2008 عن مركز الحضارة العربية، فلقد أدمى جرح الانقسام الفلسطيني قلبي كما أوجع قلوبًا كثيرة في عالمنا العربي والإسلامي، ولم يكن أكثر المتفائلين يتوقَّع أو يحلم بأن ينتهي هذا التشرذم الفلسطيني (فتح وحماس/ الضفة وغزة) في عشية وضحاها، وعلى يد مَن..؟! مصر التي أُبعَدَت لسنوات، وبفعل فاعل، عن حقِّها الأصيل في دعم وإدارة هذا الملف الشائك (غزة)، والمشاركة في حل تلك القضية التاريخية.. قضية فلسطين.. التي ضَحَّتْ (وتُضحِّي) من أجلِها بالغالي والرخيص.

وفاضت الدموع، دموع الفرحة هذه المرة، في مطلع أكتوبر الحالي، عندما لمحتُ علم مصر يرفرف من جديد في غزة، وأغنية «تسلم الأيادي» تستقبل وفدًا مصريًّا برئاسة السيد خالد فوزي رئيس المخابرات العامة، ليتوِّجَ جهدًا مصريًّا وفلسطينيًّا وعربيًّا في إذابة جبل الجليد بين شعب فلسطين الحبيب على طرفَيْ نقيضِهِ، وتفهَّمت الزفة الإعلامية التي صاحبت الزيارة (رغم فجاجتها).

لقد مارست القاهرة كعادتها دورًا دبلوماسيًّا وأمنيًّا منضبطًا، وقفَزَتْ على الغدر والخيانة الحمساوية (الإخوانية) في قطاع غزة منذ 25 يناير 2011 وحتى أسابيع قليلة، ليستوعبَ كلُّ المزايدين أن مصر تستطيع أن تبتلع الألمَ وتضمِّد جراحها من أجل أن تخطوَ بشكل عملي وصادق نحو مستقبل أفضل لها ولأشقائها العرب، وفي مقدمَتِهِم فلسطين التي تمثل جزءًا لا يتجزَّأُ من الأمن القوميِّ المصري.

وكعادته دومًا، كان الأزهر في مقدمة المتحمسين للمصالحة الوطنية الفلسطينية، وعَبَّر عن ذلك في بيان رَحَّبَ فيه بالخطوات التي اتخذها الأشقاء نحو التمسُّكِ بالوحدة والائتلاف ونَبْذ الفرقة والخلاف، التي تُوِّجَت بوصول رئيس الحكومة الفلسطينية رامي الحمد الله إلى قطاع غزة في الثالث من أكتوبر 2017، بعد انقطاع دام ثلاثَ سنوات.. وشدَّدَ الأزهر على «وقوفه بجانب أبناء الشعب الفلسطيني في نضالهم من أجل استعادة أرضهم المحتلة وإقامة دولتهم المنشودة، وعاصمتها القدس الشريف».
وكان الرئيس الفلسطيني محمود عباس محددًا ومحقًّا حين اختزل الحل في جملة قصيرة: «دولة واحدة بقانون واحد وسلاح واحد». أما إسماعيل هنية القيادي البارز في حماس فكان موفقًا حين تحدث بنبرة متفائلة: «نقول لأبناء شعبنا: قد يكونُ على الطريق بعضُ الصعاب، ولكننا سنحقِّق المصالَحَة مهما كان الثمن».

وبعيدًا عن لقاءات القاهرة المتوقَّعَة بين حماس وفتح لتفعيل خطوات المصالحة، وعلى رأسِها تشكيل حكومة وحدة فلسطينية، وبعيدًا عن ردود الفعل الإسرائيلية المحبطة، التي تجَلَّت في تعبير نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، والذي وصفها بـ«مصالحة وهمية»، لأنها لا تتضمن الاعتراف بإسرائيل، وحلّ الجناح العسكري لحركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة، وقطع علاقاتها مع إيران، العدو اللدود للدولة العبرية.
بعيدًا عن كل هذه التفاصيل، من حقِّنا أن نفرح ونشيد ونفخر بالجهد المصري في هذا الملف، ومن حق الشعب الفلسطيني (تحديدًا أهل غزة) أن يستبشروا خيرًا بالأيام المقبلة، وعلى النخب السياسية في كل الفصائل الفلسطينية أن تكون على قدر المسئولية التاريخية الملقاة على عاتقهم.



عاش نضال الشعب الفلسطيني
وعاشت القدس مسلمة.. عربية.. فلسطينية.

* نشر في جريدة «صوت الأزهر» بتاريخ 11 أكتوبر 2017

الخميس، 12 أكتوبر 2017

«ترويسة» الشرق الأوسط


تبقى ذكرى ظهور اسم «محمد مصطفى أبو شامة» للمرة الأولى في ترويسة صحيفة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، في يوم الأربعاء الموافق 13 أكتوبر 2010، ذكري خالدة في وجداني.
فقد كانت حدثًا وشرفًا لم يسبِقْني إليه أحد من الزملاء الذين أداروا مكتب الصحيفة بالقاهرة، وهو المكتب الأهم والأكبر بين مكاتبها المنتشرة في أرجاء العالم، وكلُّهم - بالمناسبة - أسماء كبيرة ومهمَّة في تاريخ الصحافة المصرية والعربية، يكفي أن نقول إن منهم الأساتذة الكبار إبراهيم سعدة، وعماد أديب، وجمال عنايت، وعمرو عبد السميع، ولبيب السباعي، وعبد اللطيف المناوي، وعبد المنعم مصطفى.
لهذا فالحدَثُ يصعُبُ أن يَسقُطَ من ذاكرتي أو يختفيَ من تاريخي المهني الذي صنعتُهُ بعرقي وجهدي (دون واسطةٍ أو محسوبيةٍ أو علاقاتٍ عامَّةٍ أو شِلَلِيَّةٍ) عبر رحلة طويلة في بلاط صاحبة الجلالة تمتدُّ لأكثر من 25 عامًا.
لقد كان وَضْعُ اسمي في ترويسةِ أهم صحيفة عربية، شهادةَ تقديرٍ عزيزةً وغاليةً من الزميل المحترم الأستاذ طارق الحميد رئيس التحرير الأسبق للصحيفة، بعد ثلاث سنوات من العمل الصحفي الدءوب والمخلص بالصحيفة؛ بين مقرِّها الرئيسي في لندن، ومكتبها في القاهرة، وأكثر من عامين في إدارة التحرير، وإعادة تأسيس المكتب الذي توسع بشكل غير مسبوق تحت إدارتي.
وقد تم تكليفي بالعمل مديرًا لمكتب الصحيفة بالقاهرة (مسئولَ تحريرٍ) في 31 مارس 2008، في رحلة امتدت 5 سنوات، قبل أن تتوقف مؤقتاً في 31 مارس 2013 لأكثر من عام، وتعود من جديد لثلاث سنوات تحت قيادة الصحافيِّ المحترم الخلوق الأستاذ سلمان الدوسري، انتهت في 31 يوليو 2017.
رحلةٌ فخورٌ بها جدًّا، وسعيدٌ بما أنجزتُهُ فيها من أعمال، شاركني فيها عشراتُ الزملاء ممن وفَّرَتْ لهم «الشرق الأوسط» الفرصة، وأتاحت لهم التجربة التي أصقَلَتْهم وأسهَمَتْ بشكلٍ مؤثِّر في كل نجاح حصدوه (وإن أنكروا ذلك أو أسقَطُوهُ من حساباتِهِمْ).
للمفارقةِ، كان ظهور اسمي في «الترويسة» سببًا في كل معاناة لاحقة حَدَثَتْ لي في تجربتي مع «الشرق الأوسط»، فبعيدًا عن اسم مؤسسَيِ الصحيفة هشام وعلي حافظ، توجد ثلاثةُ أسماءٍ سعودية، واسمانِ مصريانِ، رَحِمَ اللَّهُ من ماتَ ومَتَّعَ بالعافيةِ كلَّ مَن تقاعدوا وما زالت إسهاماتُهُم الإعلامية ساطعة.

وتبقى كلمةُ شكرٍ صادقة من القلب لمن مَنَحَني فرصة العمل بالمجموعة السعودية للأبحاث والتسويق (ناشر «الشرق الأوسط» و«المجلة» وغيرهما من المطبوعات الخالدة في تاريخ الصحافة العالمية)، في عام 2004، وهو معالي الدكتور عزام الدخيل المستشار الحالي بالديوان الملكي السعودي، ووزير التعليم السعودي السابق، وهو أيضا الرئيس التنفيذي السابق للمجموعة، وصاحب الأيادي البيضاء على كثيرٍ من العاملين بالحقل الإعلامي في عدة دول عربية، أثابه الله بقدر نيته.



الأربعاء، 4 أكتوبر 2017

فـشـل عـمـلـيـة توريـط «الإسـلام».. في «لاس فيـجاس»



رغم صدور أكثر من تصريح «مائع» من الإدارة الأميركية ترجِّح صعوبة ذلك، فإن آلية صناعة خبر تنفيذ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لعملية القتل الوحشية التي وقعت، في مدينة «لاس فيجاس»، تستحق الرصد والتحليل، ربما لا يتكرر فخ توريط «الإسلام» في كل عنف يجري حول العالم، وهو الفخُّ الذي ينصبه «إعلام دولي مشبوه» تحرِّكُه في الخفاء أنظمة سياسية وقوى اقتصادية عالمية، تجاهد لتستثمر كل شيء لخدمة أهدافها.
على سبيل المثال، هذا جزء من خبر بثته وكالة الصحافة الفرنسية (أ.ف.ب) بعد دقائق من وقوع الجريمة، حيث ختمت قائلة: «أعاد إطلاق النار في لاس فيجاس إلى الأذهان إطلاق النار بشكل عشوائي أثناء حفل لموسيقى الروك، في باريس عام 2015، مما أسفر عن مقتل 89 شخصًا، ووقع في إطار هجمات منسَّقَة لإسلاميين متشددين أودَتْ بحياة 130 شخصًا».
والخبر الذي صاغته عقول إعلامية مدَرَّبَة ومحترفة، يظهر بوضوح سوء النية المبيَّت لتوريط «الإسلام» في الجريمة التي وَقَعَتْ في الليلة الأخيرة من مهرجان «موسيقى الريف» الذي يحضره الآلاف من الأميركيين في أحد مسارح «لاس فيجاس» المكشوفة، حيث أطلق أحد سكان المنطقة، ويدعى ستيفن بادوك (64 عامًا)، الرصاص بكثافة على الجمهور من الطابق 32 في فندق، فسقط 58 قتيلًا وأكثر مم 500 مصاب، وأطلق الرصاص على نفسه (منتحرًا) قبل أن تدخل الشرطة غرفة الفندق التي كان يُطلِق منها النار.


ثم تورَّطَتْ كلُّ وكالات الأنباء العالمية في بث خبر نقلًا عما تسمى «وكالة أعماق» وهي الناطق الرسمي لتنظيم داعش، يفيد بأن مرتكب الجريمة «بادوك» قد أشهر إسلامه قبل شهور، ثم بعد دقائق قليلة أعلن التنظيم مسئوليته عن تنفيذ عملية «لاس فيجاس»، وبطبيعة الحال تناقلت الخبر كلّ وسائل الإعلام الدولية والعربية والمحلية، ونجح «الإعلام المشبوه» في تحقيق هدفه لحظيًّا بتوريط الإسلام في الدم، وترسيخ الكراهية والغضب تجاهه في العقول والقلوب الأمريكية المكلومة في ضحاياها، قبل أن تخرج علينا بخبر حاسم، حيث قال مسئولان أميركيان كبيران إنه «لا توجد أدلة حاليًا على أن مطلق النار الذي قتل ما لا يقل عن 50 شخصًا في لاس فيجاس مرتبط بأي جماعة دولية متشددة».. والخبر بثته وكالة «رويترز».
أما وكالة الصحافة الفرنسية فقد استمرَّتْ على منهجها، عندما نَشَرَتْ حصرًا تقليديًّا لجرائم القتل العشوائية التي شهدتها أميركا خلال السنوات الماضية، واختارت أن تبدأ بالجريمة الوحيدة التي نَفَّذَها أفغاني مسلم وتبناها «داعش» (التنظيم المشبوه والمصنوع في أروقة المخابرات الأميركية)، فعلت «أ.ف.ب» ذلك لثقتها في أن القارئ سيكتفي بالجريمة الأولى ويتعثر في ذكرياتها، ثم يمر سريعًا على بقية الجرائم فيترسخ في ذهنه أن مرتكبيها أيضا من نفس المِلَّة (مِلَّة محمد).
وإذا أُزيحَ التراب عن ذاكرة «السمك» التي تتمتع بها معظم شعوب العالم، وتم تنشيطها، فسنتذكر جميعًا كمَّ الجرائم المشابهة التي ارتُكِبَت في أميركا وأوروبا، قبل أن تظهر موجة (وموضة) توريط الإسلام في كل عنف، فهذه المجتمعات الغربية هي التي صَدَّرَتْ لنا كل أشكال العنف.. مارسَتْه علينا عندما استعمرتنا لقرون، ورسخته في وجداننا بأضخم منظومة «غسل أدمغة»، جَمَعَتْ السينما والآداب والفنون وروَّجَت لها «الميديا» التي أصبَحَتْ حجر زاوية هذه المنظومة، زرعوا كل مناهج العنف وآياته وأشكاله، لنحصد جميعًا الدماء.

رحم الله كل ضحايا العنف في العالم، وألهَمَ  أُسَرَ قتلى ومصابي لاس فيجاس الصبر.

** منشور في صحيفة «صوت الأزهر» الأسبوعية في العدد الصادر يوم 4 أكتوبر 2017


التاريخ في حضرة الشامة (1) - 19 يوليو 2014

كنا في أواخر شهر رمضان، جاي لي تليفون من شخص  كنت شايف إنه أذاني جدا، واتسبب لي في اكبر خسارة حصلت لي في حياتي..  وكنت مسخر نفسي بادعي عليه ...