نعم ضاعت
الجولان، مثلما ضاعت القدس العام الماضي، وقبلهما فلسطين وسوريا وليبيا واليمن
وأراضي عربية وإسلامية كثيرة، فنحن العرب المسلمون نحمل على أكتافنا تاريخاً طويلاً وممتداً من السقوط والضياع، ربما يمتد إلى الوجع الأعظم.. ضياع الإندلس وسقوط غرناطة
عام 1492.
نعم ضاعت
الجولان، عندما راهن أسد سوريا على جيشه وقوته وقدرته في تحريرها بالقوة، رافضا أن
يضع يده في يد الرئيس المصري الراحل أنور السادات، ليستعيدا الاراضي العربية التي
احتلتها إسرائيل عام 1967 بالسلام، بعد أن نجحا معا في زلزلة هذا الإحتلال الغاشم
في أكتوبر 1973، بنصر عزيز وغالي على قلوب المصريين والسوريين، ولكن ضاعت قيمته
بالنسبة للجولان، بينما نجحت مصر في استعادة سيناء بعد معركة دبلوماسية ضارية
(دوليا وعربيا) لا تقل عن شراسة معارك السلاح التي خاضتها مصر من اجل استعادة الاراضي
العربية التي سقطت، لتتساقط معها دموعنا وتتضاعف أحزاننا على ضياع أرض عربية جديدة،
ورغم تدارك الأسد الأب لخطأ السبعينات، وعودته مضطرا في التسعينات إلى مائدة
مفاوضات السلام، لكن القطار كان قد مضى، وتعنتت إسرائيل وأجهضت أي أمل سوري في
استرداد الجولان بالسلام.
حتى
أستنسخ الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تجربة وزير الخارجيّة البريطاني آرثر بلفور
(1916: 1919) والذي أرسل رسالته الشهيرة أو إعلانه الذي سمي لاحقا «وعد بلفور» في 2 نوفمبر عام 1917، إلى اللورد ليونيل دي روتشيلد أحد
أبرز وجهاء المجتمع اليهودي البريطاني، والذي تضمن وعدا بريطانيا بدعم تأسيس «وطن قوميّ للشعب اليهوديّ» في فلسطين.
وعلى غرار
الوعد الجائر، الذي أعطى فيه بلفور «ما لا يملك لمن لا يستحق»، يكررها ترامب من جديد بعد قرن من الزمان، ويسلم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في
البيت الأبيض، مرسوما أمريكيا يعترف بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان.
وكانت
مرتفعات الجولان قبل هذا التاريخ المشئوم (25 مارس 2019)، أرضا محتلة من قبل
إسرائيل وفق قرارات الأمم المتحدة، وكان العدو الصهيوني قد أعلن عام 1981 (من جانب
واحد) ضم الجولان وهي الخطوة التي لم تحظ باعتراف دولي (وقتها).
وتقع الجولان
في بلاد الشام بين نهر اليرموك من الجنوب وجبل الشيخ من الشمال، وتسمى أحيانًا
باسم «الهضبة السورية»، خاصة في اللغة العبرية واللغات الأوروبية، وتطل الهضبة
على بحيرة طبرية ومرج الحولة في الجليل، أما شرقًا فيشكل وادي الرقاد الممتد من
الشمال بالقرب من طرنجة باتجاه الجنوب حتى
مصبه في نهر اليرموك حداً عرف بأنه يفصل بين الجولان وبين سهول حوران وريف دمشق. وتبعد
الجولان 60 كم إلى الغرب من مدينة دمشق. وتقدر المساحة الإجمالية لها بـ 1860 كم2،
وتمتد على مسافة 74 كم من الشمال إلى الجنوب دون أن يتجاوز أقصى عرض لها 27 كم، وتعتبر
الهضبة أرضا زراعية خصبة، كما أنها موردا مهما من موارد المياه في المنطقة التي
تعاني أصلا شحا كبيرا في المياه، ويوجد بها 30 مستوطنة إسرائيلية يعيش فيها نحو 20
ألف مستوطن. كما يعيش فيها نحو 20 ألف سوري أغلبهم من طائفة الموحدين الدروز.
والمرسوم
الأميركي الغادر لا يضيف جديدا على الواقع القائم في الجولان، لكنه يخدم في المقام
الأول كل من ترامب ونتنياهو سياسيا، فكلاهما ينتظره معركة انتخابية هامة، وتخضع الجولان
تحت السيادة الاسرائيلية بحكم حقائق القوة، وتنتمي تاريخيا إلى سوريا، التي كادت
أن تمحى من خرائط الجغرافيا في السنوات الثماني الماضية، لولا عناية الله التي
أنقذت بلاد الشام وأهله وأركان دولته.
ما يقلقنا
من هذا المرسوم أو وثيقة السيادة أو الوعد الباطل، أنه يمهد الطريق لقرارات
أمريكية آخرى تحدد مصير المنطقة وشعوبها، يأتي في مقدمتها ما يسمي بـ«صفقة القرن»، والتي لا يعلم أحد حدودها أو بنودها ويقال أنها تبشر بمرحلة جديدة في
العلاقات العربية الاسرائيلية وتقضي على المشكلة الفلسطينية، ويشاع أيضا أنها ستتم
بمباركة وموافقة أطراف عربية فاعلة في المنطقة، ويبدو أن كل ما جرى في منطقة الشرق
الأوسط من عام 2011 إلى اليوم كان يمهد لهذه الصفقة ويؤسس لشكل المنطقة وفق رؤى
أمريكية خططت لها إسرائيل. ليتجدد بداخل كل منا، صدى السؤال التهكمي لشاعر العرب
السوري نزار قباني، والذي جعله عنوانا لواحدة من أهم قصائده الخالدة.. «متي يعلنون وفاة العرب؟».
*نشر في جريدة «صوت الأزهر» بتاريخ 27 مارس2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق