تُشرِق علينا أيام «ربيع الأول»، فتهِلُّ
ذكرى حبيبِنا ونبيِّنا المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، نتذوَّق حلاوة عُرْس مولِدِه
الذي ابتدعه الفاطميون «الشيعة»، وحوَّلَه المصريون «السُّنَّة» إلى حفلٍ سنويّ، وأصبح
يُعرَف بـ«مولد النبي» يحتفون فيه على طريقتِهِم الشعبية بـ«سيدنا». ومن عباءته
خرجت عشرات الموالد الأخرى التي تحتفي بأهل بيت النبوة والمشايخ والأولياء والصالحين.
وفي ذكرى «مولد النبي» تتفجَّر كرامات
المحبة فتضيء القلوب، وتُلهِم العشَّاق إبداع الذكر في سيرته العطرة، وإعادة
اكتشاف بواطن جمالها، ومفاتن قصصها، وعبقرية أحداثها، وكأن المسلمين في مصر
(ونيابةً عن عموم مسلمي العالم) يقدمون كل عام هديةً للمصطفى في يوم مولده، على ما
قدمه للبشرية، فاستحقَّ أن يكون خير البشر أجمعين، يشكِّل نصَّها القولُ المأثور: «جزاك
اللهُ يا سيدي يا رسولَ الله عنا أفضلَ ما جُزِي نبيٌّ ورسول عن أمَّتِه.. فلقد بلَّغتَ
الرسالةَ وأديتَ الأمانةَ، وأوضحتَ الحُجَّة وكشفْتَ الغمة، ونصحتَ العباد، وجاهدتَ
في سبيل الله حق الجهاد».
وقد أكرمني الله هذا العام أن أحتفل
بذكرى مولد الحبيب، في رحاب صحابته المخلصين، من خلال إشرافي على كتابة مشروع
درامي عنوانه «رجال حول الرسول»، يحكي سيرة 30 من أبرز الصحابة؛ أسماء تقف أمامها
مشدوهًا من فَرْط إخلاصها للعقيدة، ومن عُمق إيمانها، وتقف لها إجلالًا على عطائها
لدعم خاتم المرسلين ونَشْر ما حمله له جبريل من رسائل التوحيد، والتضحية بكل نفيس،
ثقةً في الله وفي رسوله الصادق الأمين.
لا أجرؤ على أن أباري كاتِبَنا
الكبير ومفكِّرَنا الإسلامي الراحل خالد محمد خالد في مضماره، فهو الأسبق والأحق
بهم؛ فقد قدم للمكتبة العربية كتابًا حمل هذا العنوان، غُزِل بحروف من نور في
مقدمته بعض الكلمات الخالدة: «فالعظمة الباهرة التي نراها على صفحات هذا الكتاب
لأولئك الرجال الشاهقين من أصحاب الرسول ليست أساطير، وإن بَدَتْ من فرط إعجازها
كالأساطير!! إن التاريخ لم يشهد رجالًا عقدوا عزمهم ونيَّاتِهم على غاية تناهت في
العدالة والسمو، ثم نذروا لها حياتهم على نسق تناهى في الجسارة والتضحية والبذل،
كما شهد أولئك الرجال حول الرسول».
وقد ذكر بعض العلماء أن عدد الصحابة
الذين تُوفِّي الرسول عنهم مائة وأربعة عشر ألفًا، وقال السيوطي تعليقًا على هذا القول:
«هذا لا تحديدَ فيه، وكيف يُمكِن الاطلاع على تحرير ذلك مع تفرق الصحابة في البلدان
والبوادي والقرى؟!».
ويتقدم صحابة النبي، العشرة
المبشرون بالجنة، ومن بعدهم علماء ومقاتلون أشداء، وآخرون حظوا بشرف الشهادة، كما
تمنوا ودعوا الله في غزواتهم وفتوحاتهم، وقد مَيَّز الرسول بعض صحابته وخَصَّهم
بصفات مميزة، كما روى أبو سعيد الخدري قائلاً: قال رسول الله: «أرحم أمتي بها أبو
بكر الصديق، وأقواهم في دين الله عمر بن الخطاب، وأصدقهم حياءً عثمان بن عفان، وأقضاهم
علي بن أبي طالب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال
والحرام معاذ بن جبل، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، وأبو هريرة وعاء للعلم».
وفي رحلتي الثرية بين قصص الصحابة الخالدين،
لا أخفي أني تعرفت على أسماء عظيمة، تعلمتُ من سِيَرِهم ما لا تسعه السطور ولا
تستوعبه العقول، وأكثر من استوقفتني سيرتهما كانا «العاصَيْن»، اللذين عاشا صباهما
في كنف الرسول بالمدينة ابنين لاثنين من أعز وأكرم الصحابة؛ عمر بن الخطاب وعمرو
بن العاص، وقد أكرم الله ابنيهما بأن غَيَّرَ لهما رسول الله اسميهما فكانا كلاهما
«عبد الله».
وكان موقفهما (عبد الله بن عمر وعبد
الله بن عمرو) من أحداث «الفتنة الكبرى» التي أشعلت تاريخ الإسلام، ولا تزال، أشدَّ
ما استوقفني في سِيرتِهما العطرة، وكيف نأيا بنفسيهما عن هذا الهلاك، رغم أن
أحدهما ابن واحد من صناعها (عمرو بن العاص)، والثاني (ابن عمر) رُشِّح بقوة ليكون
خليفة المسلمين (خلفًا لأبيه) ثم حَلًّا وسطًا ارتضَتْه أطراف الفتنة في أكثر من موقف،
ولعلَّ أبلغ ما تُوصَف به أزمة الأمة الإسلامية حتى اليوم، هو ما قاله ابن عمر رضي
الله عنهما، قال: «إنما مثلنا في هذه الفتنة كمثل قوم يسيرون على جادَّة يعرفونها،
فبينما هم كذلك، إذ غشيتهم سحابة وظُلمَة، فأخذ بعضهم يمينًا وشمالاً، فأخطأَ الطريق،
وأقمنا حيث أدركنا ذلك».
إن الرجال حول الرسول، كانوا «أعظم
ثُلَّة ظهرت في دنيا العقيدة والإيمان»، كما وصفهم خالد محمد خالد، «أُولَٰئِكَ الَّذِينَ
هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ»، كما قال عنهم
المولى عز وجل. وما عبقرية الرجال، إلا استلهامًا وتأكيدًا على عبقرية القائد، «أيَّ
معلم كان.. وأيَّ إنسان! ».. محمد بن عبد الله، النبي الأمِّي الهادي البشير الذي التفَّت
حوله القلوب وصلَّى الله عليه وسلم. لا نملك في ذكرى مولده العطرة إلا أن ندعو
الله أن يلِمَّ شمل أمته، لتستحق أن تُنسب له وتكون (أمة محمد).. اللهم ارزقنا
منحةَ استغفارِهِ ووداده وشفاعتَه.
*نشر في جريدة "صوت الأزهر" بتاريخ 22 نوفمبر 2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق