السبت، 6 ديسمبر 2014

براءة «الديب».. وبائعة «المناديل»



وقفت بائعة المناديل العجوز «المتصابية» في إشارة مرور «روكسي» بحي مصر الجديدة القاهري، تحاول إقناعي بأن أشتري منها عند توقفي في طابور الانتظار «الممل» عند هذا التقاطع المروري الشهير.. لم تجد البائعة أملا في أن أشتري منها، لكنها أصرت على الحديث وأنا أتابعها «نصف شارد».. بدأت قائلة (بصوت جهوري أسمع الشارع كله): «بس سيبك أنت يا بيه» (تقصدني طبعا فقد كنت في قمة أناقتي)، وأكملت: «إحنا أكلناهم على قفاهم مرتين».. هما مين «يا ست؟»، قلتها في «سرِّي»، وقبل أن أنطقها كانت الإجابة تتدفق منها بالصوت الجهوري نفسه، وقد صاحبته هذه المرة إشارات معبرة من يدها: «إخوان مرسي الله يلعنهم.. »، ثم أكملت: «الأولانية لما جبنا السيسي، والتانية بقى لما خرّجنا مبارك براءة». وبدأت السيدة تتراقص فرحة بحصول مبارك والعادلي على البراءة، وقد استطردت لتحكي فضائل وزير الداخلية الأسبق والأشهر في تاريخ مصر المعاصر السيد حبيب العادلي.
كنت في اللحظة التي اقتحمتني فيها «بائعة المناديل»، أستمتع بدخان سجائري على طريقة المحامي الشهير فريد الديب، الذي حصل قبل أيام على البراءة التاريخية للرئيس المصري الأسبق حسني مبارك.. و«براءة الديب» غير كل البراءات، فهي ليست براءة قضائية بريئة، بل هي «براءة اختراع» جديدة لـ«الحقيقة».
لقد كتب القاضي الجليل المستشار الرشيدي صباح يوم السبت 29 نوفمبر الورقة الأهم في ملف المحاكمة التاريخية التي لقبت بـ«محاكمة القرن»، والتي اتهمت عصر مبارك بالفساد، لكن عشاق «براءة الديب» لم يقرأوا الورقة ولم يتدارسوها، اكتفوا فقط بالعنوان دون الدخول في التفاصيل، ربما لظنهم أن «الشيطان يكمن في التفاصيل»، فخشوا على أنفسهم من الالتباس، وإرهاق الذهن في أمور إن وضحت لهم ربما تسيئهم، ونسي هؤلاء أن الحق أبدا لا يموت.
لا يخفى على عاقل في مصر، أن هناك حالة مجنونة من تزييف الوعي وتجريفه تجري على قدم وساق، يسهم الإعلام فيها بشكل أساسي، ومن أبرز منتجاتها هذه السيدة.. «بائعة المناديل»، وغيرها من بسطاء هذا الوطن المغلوب على أمره، الذي رأى بأم عينيه زهرة شبابه يخرجون ثائرين في يناير 2011 رافضين حكما «فاسدا» استمر قرابة الثلاثين عاما، ورأوا كيف اصطادت رصاصات الغدر بعض هؤلاء الشباب. وكان الأحرى بأصحاب الفرح أن يخجلوا من أنفسهم، لأن لهم إخوة «حزانى» ويعتصر الألم قلوبهم على فقدانهم أبناءهم، وتجدد حزنهم بعد براءة من كانوا يظنون أنهم قتلة فلذات أكبادهم. هذا ما تفعله أي أسرة مصرية وعربية عندما تجهز لإقامة فرح ولهم جار أو قريب يعيش في أحزان تخصه.. في الأغلب تخفف الأسرة الفرِحة من مظاهر فرحها، وربما تؤجله حرصا على مشاعر الآخر الحزين.. فما بالنا وأن الفرحين بـ«براءة الديب» أقاموا أفراحهم على براءة إجرائية «جنائية»، وهي براءة لا تفرح، لأن الجريمة «سياسية» بالأساس، وكانت خطيئة كبيرة أن تتم محاكمة مبارك جنائيا، فهو أمر لا يليق بمصر ولا بأي من حكامها أيّا كان تقييمنا لهم ولعصورهم، بما في ذلك محمد مرسي المرشح هو الآخر لبراءة مشابهة على طريقة «الديب»، وهي نبوءة لعله يكون لي فيها السبق، ولندع الأيام تؤكدها.
اخضرت الإشارة أخيرا، وهممت أن أتحرك بسيارتي بعد أن يئست من طول الانتظار، ولمحت «بائعة المناديل» العجوز تتحرك بخفة «المخبرين» بين السيارات، وتردد ما كانت تقوله لي بالصوت الجهوري نفسه، وتختم كلامها قائلة: «والله يا بيه.. العادلي ده كان سكرة.. الله يرحم أيامه»..
ظل صدى صوتها يتردد في وجداني لساعات جلستها خلف عجلة القيادة في سيارتي بين شوارع القاهرة التي عادت لها «هستريا» الازدحام الرهيب، بفعل شائعات التظاهر التي تجددت كنتيجة حتمية لـ «براءة الديب» .
وفوجئت بنفسي أردد يائسا..
ودون أي مقاومة أو ممانعة..
فعلا .. الله .. يرحم أيامه !!

وألقيت بـ « علبة المناديل» كلها من نافذة السيارة ..

الثلاثاء، 18 نوفمبر 2014

صاحبة السعادة.. وصاحبة الجلالة

صحافة لقيطة = شعب عبيط


الست «إسعاد»، التي وهبها الله سحر اسمها. فكانت، ومنذ أن تخطت عتبات الإبداع الأولى، مصدر بهجة وسعادة لكل من يتعاطى مع فنها. أمتعتنا مسرحا وسينما وتلفزيونا، عندما ظهرت كممثلة، وتمكنت ببراعة من أن تضحكنا حتى «استلقينا على قفانا» وهي كاتبة ساخرة متألقة للدراما أو للمقالات في الصحف والمجلات، كما كانت متألقة أيضا كمذيعة رصينة في التسعينات على شبكة «أوربت» الفضائية، قبل أن يختطفها دور «المنتج» الجاد الذي جسدته لسنوات من خلال شركة إنتاج سينمائي مشهورة قدمت الكثير من الأعمال المهمة في تاريخ السينما، وأثارت الكثير من الجدل حول احتكار هذه الصناعة المؤثرة والهامة، وهو جدل فقاعي أثبتت الأيام أنه كان صراعا مفتعلا بين ديناصورات سوق السينما ومفسدي هذا الفن العظيم.
واختفت «الست» سنوات عن بؤرة الضوء، «ولبدت في الدرة» تراقب، خاصة في سنوات ما سمي «الربيع العربي». وفجأة، ودون سابق إنذار، طلت علينا عبر قناة «cbc» في ثوبها الأصيل، ومارست رسالتها الأساسية. عادت لتسعدنا وتبهجنا كل أسبوع في برنامج «صاحبة السعادة»، الذي انطلق مرتبكا مثقلا برغبات وطموحات ضخمة، ولكنه كان على ما يبدو ارتباك الصعود إلى القمة، التي وصلتها إسعاد يونس وبرنامجها وتمسكت بها حتى الآن.
الست إسعاد وفرقتها من كتيبة المبدعين، بقيادة المايسترو محمد مراد، يعزفان علينا أسبوعيا لحنا متفردا يقدم وجها جديدا للصحافة التلفزيونية بمفهومها الراقي وعلى طريقة «السهل الممتنع»، حقا اللحن من مقام «نوستالجي» يلعب على «تيمة»  الحنين للماضي، لكن ما فطن له أصحاب البرنامج الشهير «صاحبة السعادة» وجعل لهم سحرا خاصا هو قدرة خلطتهم التلفزيونية على منح المشاهد قدرا من الطاقة الإيجابية «تسري تحت الجلد» بحسب تعبير إسعاد في إحدى حلقاتها الأخيرة، هذه الطاقة هي أسمى ما يحلم به صاحب رسالة حقيقي، وهي غاية كل متلقٍ كما علمنا أساتذة الإعلام الكبار.

أعلم أن شهادتي مجروحة في البرنامج، لأن مخرجه المتميز محمد مراد هو صديق عمري ورفيق رحلة كفاح إبداعي في مسرح كلية الإعلام قبل أكثر من 18 عاما، وهو ما جعلني أتأخر كثيرا في الكتابة عن هذا البرنامج الأفضل مصريا لهذا العام، لكن متابعتي المتقطعة لعدد كبير من حلقاته الناجحة والكاسحة، وكذلك ردود الفعل الجماهيرية المستمتعة والمشيدة والسعيدة بهذا البرنامج، رفعت عني الحرج وجعلتني أفكر فيه كنموذج جاد ومحترم للصحافة المرئية التي يحتاجها الوطن في هذه اللحظة المظلمة التي يتدافع فيها إعلاميو مصر في «الولولة» و«اللطم» و«الندب» وبث روح الاكتئاب في نفوس المصريين، وسحب كل طاقاتهم، وهو ما أسهم في هروب المشاهدين من معظم البرامج التي كانت في أوقات سابقة محل انبهار ومتابعة مميزة وعلى رأسها برامج «التوك شو» اليومية التي ظلت هي الأكثر متابعة طوال السنوات الثلاث الماضية.
مدينةٌ صاحبة الجلالة، الصحافة، بكل فروعها، مكتوبة ومرئية ومسموعة وإلكترونية، للست إسعاد وفرقتها بالكثير؛ فقد قدمت درسا مهنيا غاية في الأهمية، ربما لم تقصده، وهذا عظيم. وربما كان في بالها هي وفرقتها، وهذا أعظم. وملخص الدرس بعيدا عن «الأكليشيهات» الأكاديمية: إن الأوطان في أوقات الأزمات والحروب، تحتاج إلى إعلام يجمع الشمل، يبحث عن مشتركات بين أبنائه ويعيد تسليط الضوء عليها، يتجنب مناطق الخلاف ويبتعد عن التشويه أو رصد العيوب، إعلام يبث روح التفاؤل والبهجة الهادفة في نفوس مواطنيه الحائرة.. المتوترة.. الخائفة، إعلام صادق.. بسيط.. طيب، يهدهد المشاعر، يحدثك بهدوء وعقلانية، يستنهض روحك الإيجابية، يعيدك إلى جذورك الوطنية دون صخب أو افتعال.
لعلهم يفهمون.


نشر المقال في «جورنال مصر» العدد الثالث - 16 نوفمبر 2014





الأحد، 16 نوفمبر 2014

«عنتيل» مصر.. و«عنتريات» العرب


«أعشق الخوخ المثلج.. لأنه يذكّرني بشفتيها اللتين قضمتهما يوم أن منحتني شرف تقبيلها لأول مرة.. لن أذكر اسمها، فهي تتذكرني جيدا.. مثل كل بنات أفكاري اللاتي حللن ضيوفًا على قلبي ذات ليلة.. وإن كانت هي تتمتع بلقب الأولى في كل شيء، لكنها أبدا لم تكن الأخيرة».
قفزت أمامي فجأة «قصاصة ورقية» كنت قد كتبتها في مراهقتي - عدّيها مراهقتي - تأثرا بمقطع من قصيدة «عشرين ألف امرأة أحببت» لفارس الشعر العربي نزار قباني: «عشرين ألف امرأة أحببت / عشرين ألف امرأة جرّبت / وعندما التقيت فيك يا حبيبتي / شعرت أني الآن قد بدأت». كان رقم الـ20000 امرأة مستفزا جدا لشاب مثلي يبحث عن نصف امرأة تبادله العشق حتى لو في أحلامه، قهرني نزار بعدد نسائه، فقررت أن أسابقه حتى لو في خيالي ومع بنات أفكاري - تمشي أفكاري برضه - ومنحت كلا منهن رقما، وتحدّيت العمر كي لا أموت قبل أن أتفوّق على نزار.
لكني الحمد لله تزوجت، ونضجت وتفهمت أن عنتريات الشعر محض خيال، لكن للتاريخ لم أنسَ قَطّ طعم الخوخ المثلج - ثمرة الفاكهة الأكثر قربا إلى قلبي وعقلي وروحي.
وبعد الزواج، تاهت مني الدنيا وتهت في دروب كثيرة، تلقفني قصيدة لأخرى، وشاعر لشعراء، وكتاب لمفكرين وأدباء، ومن المرأة للوطن، ومن الشعر للرواية، للصحافة، والسياسة، والدين، وفي كل درب كانت تتردد نفس «العنتريات»، التي اتضح لي أنها صفة أصيلة عميقة الجذور في شخصيتنا العربية، تجذبنا فنرددها وتصادف هوانا فنصدّقها، مثلنا مثل أطفالنا الذين يتسابقون على متابعة شخصياتهم المحببة الـ«Heros». فهذا زعيم سياسي يشبه «Ben 10 ultimate alien»، وهذه جماعة دينية مثل «Ninja Turtles»، وأرجو أن لا تحرجني مستفسرا عن اسم الزعيم أو الجماعة، فهذه عنترية لا تُحمد عقباها.
أفضّل أن ندَع السياسة «وبلاويها»، ونعود مرة أخيرة لسباقي مع نزار قباني. وللتاريخ أقول إن «عدّاد النساء» عندي توقف عند رقم «20» من غير ألف، وهذا ليس «نخعًا» أو محضَ خيال، فعندي من الدلائل ما يؤكد لمن نما إليه الشك، ربما في زماني لم تكن التكنولوجيا قد وصلت إلى مبتغاها من تطور، وربّك حليم ستّار.
إن اعترافي هذا ليس من «العنتريات» للمباهاة بإنجازاتي الذكورية - الخيالية طبعا - ولكنه مطالبة بحقي في اللقب، لقب «عنتيل مصر» الذي أستحقه عن جدارة ربما أكثر من الملتحي الذي قفز اسمه فجأة ليتصدر كل وسائل الإعلام - المحمولة والمركوبة - وأصبح ملء السمع والأبصار، بفضل «فيديوهات جنسية» تم تسريبها من جهاز كومبيوتر محمول يملكه، كان قد سلمه لفني صيانة لإصلاحه في قرية «السنطة» بمحافظة الغربية بدلتا مصر، فقام الفني بتسريب هذه الفيديوهات، مما أحدث فضيحة مدوية في القرية الصغيرة، واختطف الملتحي اللقب وسط حقد رجال كثيرين، ظنوا لسنوات أنهم «عناتيل»، لكن فاتهم أن يوثقوا بطولاتهم كي يتمكنوا من المطالبة بأحقيتهم في هذا اللقب المنعش.
ولعشاق اللغة، تقول المعاجم العربية إن مصدر كلمة «عنتيل» هو كلمة «عنتل»، ومعناها «الصُّلْب الشديد، وعَنْتَلَ الشيءَ: خَرَّقَهُ قِطَعًا»، والمعنى واضح لا يحتاج إلى تحليل أكثر. كما تنسب «عنتيل»  إلى كلمة «أنتوري» في اللغة المصرية القديمة (وفقاً للموقع الإلكتروني dotmsr.com)، وهي تعني «الرجل القوي» والتي تطورت عبر العصور إلى أن أصبحت «عنتري» أو «عنتيل».
المدهش في قصة «عنتيل السنطة» أن السبب المباشر في فضيحته هو شبهة ارتباطه بأحد التنظيمات الحزبية السلفية، وهو ما ارتفع بالقصة إلى قمة الإثارة بالخلطة الثلاثية: جنس وسياسة ودين. والغريب في القصة أنه لم يتم القبض عليه حتى كتابة هذه السطور. لست قانونيا كي أفتي في الأمر، لكني لا أفهم، رجل يعاشر نساء متزوجات ويصورهن أثناء هذه المعاشرة، وتنتشر هذه الفيديوهات المصورة بمعرفته في كل بيت في قريته، وتصل إلى السادة أزواج السيدات «الفضليات»، «المتصورات.. عاريات». كيف يبقى هذا الرجل بعد كل ذلك حرا طليقا؟
ربما يتحفز «نطع» إعلامي وتأخذه «العنترة» المهنية، ويسخر من مناقشتي لقصة «تافهة» من وجهة نظره، ويطالبني بالكتابة عن «الهجوم البحري على لنش عسكري في دمياط»، أو عن «انتحار الناشطة السياسية زينب المهدي»، لكني لن أمنحه شرف الرد عليه، سأكتفي وأسأله، وأتمنى أن يجب بشجاعة: هل شاهدت فستان هيفاء وهبي في «STAR ACADMY» ليلة الخميس «المفترجة»؟
كلمة أخيرة، استمتع بالـ«عنتلة» مع نساء أفكارك، ولا تأخذك الـ«عنترة» السياسية أو الدينية، فبهما تكتمل الدائرة وتغلق عليك، وتجد نفسك مفضوحا فضيحة الملتحي بـ«لاب توبه».

الاثنين، 10 نوفمبر 2014

«نظرية الفِيشار في صناعة الأخبار»

 صحافة «لقيطة» = شعبًا «عبيطًا»


تفشى مرض عضال في جسد مهنتنا وعقول المشتغلين بها في السنوات الأخيرة.. مرض «تجهيل» المصادر، أي إخفاء أسمائها ومناصبها، وتحول الأمر من تصرف تلجأ إليه أحيانا الصحف مضطرة لحماية بعض المصادر من ذوي الأوضاع الحساسة، إلى موضة تتصدر الصفحات الأولى وكل الصفحات الداخلية في معظم صحفنا المصرية والعربية، وهو الأمر الذي فتح باب المهنة على مصراعيه أمام الفاشلين من مؤلفي القصص الرخيصة وكتّاب الدراما المبتذلة، ليصبحوا صحفيين، بعد أن أطلقوا لخيالهم العنان وتخيلوا حوارات أجروها مع مصادر رئاسية ودبلوماسية وعسكرية وسياسية مهمة، ونجحوا ببراعة فائقة في أن يخرجوا من هذه المصادر كل أسرار الدولة، ويكشفوا كواليس وخبايا مثيرة تجري داخل دوائر الحكم العليا، ومنحوا أنفسهم السبق في نشرها، وتحولوا لنجوم كبار على «قفا» الجمهور المسكين. جهل القارئ المتعلم وعدم قدرته على كشف كذب ما يقرأ، جعله يتعامل بسذاجة مع الإعلام بكل صنوفه، كعادة «المواطن مصري» في طيبته وبساطته.

ولأن «آفة حارتنا النسيان» كما قال عمّنا و«تاج راسنا» أديب مصر الأهم نجيب محفوظ، فقد أصبح من السهل على مؤلفنا الذي أصبح صحفيا أن يبدع ويقول ما شاء، حتى لو ناقضت مصادر خياله بعضها بعضا.. ما المانع ما دام «الزبون» مستمتعا، وينهل من فضلات إبداعه بنَهم دون تمييز لما يقرأه أو تدقيق لصدقيته أو منطقيته.
مع الوقت، يتحول هذا القارئ الذي حشرت في رأسه كميات رهيبة من الأخبار والمعلومات المغلوطة، إلى مواطن «عبيط» يدمن الأكاذيب ويروج الشائعات بسرعة وخفة ورشاقة مبهرة، ويعمل بمهارة فائقة وفق «نظرية الفِيشار في صناعة الأخبار»، وهي نظرية أكاديمية أثبتها عالم جليل، اختصاصي «تحاليل» معملية وإعلامية وحاصل على درجة الزمالة من الجمعية البريطانية للصحفيين الميدانيين، وقد فضل عالمنا عدم ذكر اسمه، منعا للإحراج في هذه اللحظة «المرة» التي تمر بها المهنة.
تقول نظريته إن «كبس العقل البشري بحبات الأخبار (مجهَّلة) المصادر، ثم منحها قدرا من الملح الصحفي المنضبط، وتزييت الموضوع بقدر معقول من زيت الذرة للتليين، حتى لا يكون (الكبس على الناشف)، ومع ما توفره الأحداث التي يمر بها الوطن من سخونة حارقة، تستخدم بنجاح كمحفز حراري ليتم التفاعل الميكاعلامي».
ويكمل الدكتور قائلا: «تكتمل التجربة عندما ينطلق صاحبنا - مالك العقل السابق - في قذف الأخبار في شكلها الجديد كحبات (فِيشار)، بعد أن يكون منحها قدرا من المبالغة والتلوين، ولإدراك المعنى، تذكّر حبة الذرة قبل دخولها (حلة الفِيشار)، وشكلها عندما تخرج في صورتها النهائية، لتدرك عبقرية النظرية وتجلياتها العلمية».

عندما دشن المهندس المحترم عزت أمين، مصطلح «حزب الكنبة» قبل أربع سنوات، إبان «هوجة يناير» 2011، لم يكن يدرك أن عليه اختراع نشاط مكمل لهذا الجمهور العريض من المصريين، نشاط مسلٍّ يساعدهم على تمضية الوقت في جلستهم الممتدة بين شاشة التليفزيون وشاشة الموبايل.. بين الـ«توك شو» والـ«فيس بوك». ولأن الحاجة أم الاختراع، فقد ولدت هذه اللحظة التاريخية الفارقة، الملامح الأولى للنظرية الجديدة لعالمنا سالف الذكر - الذي فضل عدم ذكر اسمه -  والذي قال في موسوعته العلمية (تحت الطبع) إن «هذا الجهد المتصل بين الشاشتين يحتم على المواطن (الكنباوي) أن يأخذ الذرة من إحداهما، ليقذفها (فِيشارا) في الأخرى، وهكذا دواليك، حتى انتفخت عقولنا وأظلمت من فرط الغازات المصاحبة لتطاير الأخبار، وتحولنا بسهولة إلى قطيع بلا عقل».
وأصبح الشاطر (مش كل شاطر يبقى خيرت) هو من يحتكر زراعة «الذرة»!!
عزيزي القارئ..
أشعر بأنك لا تصدق حديثي عن هذه النظرية.. دعني أخبرك بأمر مهم؛ إن تجهيلي المصدر لا يعني أني أكذب أو أن «نظرية الفِيشار في صناعة الأخبار» من تأليفي.. ما عليك إلا أن تخبط «إيدك» على الـ«كي بورد» وتضرب «واحد سيرش معتبر» وتتأكد بنفسك من صدقي وصدق كل معلومة نشرتها عن النظرية.. وعندما تشعر بالندم على سوء ظنك، فأرجوك لا تتردد في الاعتذار، ولن أقبل اعتذارك إلا إذا قمت بنشر النظرية على كل معارفك وأصدقائك، كي تعم المنفعة..
عظم الله أجركم.

نشر المقال في «جورنال مصر» العدد الثالث - 9 نوفمبر 2014
 





الأربعاء، 29 أكتوبر 2014

#التهجير_مش_حل


لا .. هو الحل..
نعم التهجير أفضل حل في اللحظة الراهنة، ولو أدرك المهجَّرون أن الخيار البديل هو الموت، فلربما أدركوا أن جيشهم ما اتخذ هذا القرار إلا مضطرا ومجبرا كي لا يكون «#الدم_المصري_رخيص»، ونلحقه ببقية الشعار ونطالب بأن «#يسقط_أي_رئيس» الشهيرة والتي كانت تتبعها في كل مظاهرة (أيام ما كان فيه مظاهرات).




أنتمي لعائلة مصرية كانت تقطن مدينة السويس (عند المدخل الجنوبي للقناة) منذ منتصف الثلاثينات من القرن الماضي، وأجبرت هذه العائلة مع الآلاف من العائلات المصرية من سكان مدن القناة الثلاث (بعد العدوان الإسرائيلي في يونيو/ حزيران 1967) على أن تترك منازلها وأعمالها ومدارسها وتجارتها وكل ما لديها وترحل. وقتها تم تعويض أعداد محدودة من الأسر من المحظوظين وأقارب المسؤولين، أما باقي «السوايسة» و«الإسماعيلاوية» و«البورسعيدية» فلم تستطع الدولة، التي كانت تعاني من تبعات «النكسة»، أن تساعدهم بشيء، فحملت كل أسرة مصيرها، وخرجت أرتال السيارات بالمهجَّرين تبحث لهم عن مأوى بين مدن ومحافظات مصرية «شقيقة».
لم تسقط هذه الأيام من ذاكرة جدتي التي ظلت تحكي لنا ونحن أطفال محنة عائلاتنا مع التهجير والتشريد بين بيوت الأقارب، وتحدثني عن كرم «عائلة فلان» التي استضافتهم في بيتها، ونذالة «عائلة علان» التي لم تتحملهم سوى أيام قليلة وضجت بهم.
كانت الهجرة بالنسبة لعائلتي محنة عظيمة، لكن هذه العائلة لم تستسلم أو تنهرْ.. كافحت حتى نجح عائلها - وهو والدي متعه الله بالصحة - في أن يجد لها شقة صغيرة في حي روض الفرج؛ أقرب الأحياء إلى «موقف القللي» الذي كان قديما هو «ميناء القاهرة البري - تخصص خط مدن القناة»، قبل أن يُنقل إلى منطقة «الترجمان» في عهد الرئيس الأسبق مبارك. حلم العودة كان مسيطرا عند اختيار محل الإقامة الجديد. لم يكن والدي يعلم بأنه يختار للعائلة وطنا جديدا استوطنته وانتشرت بين ربوعه، وأصبح أفرادها يحملون جنسية «جمهورية شبرا».
كنت أراقب جدتي عندما يأتيها صوت المطرب محمد حمام، وهو يشدو برائعته «يا بيوت السويس.. يا بيوت مدينتي.. أستشهد تحتك.. وتعيشي إنتي».. كانت حتى وفاتها عام 2003، رحمها الله، تتساقط دموعها وتتوه في ذكرياتها مع هذه الأيام الصعبة التي لم تسقط من ذاكرتها أبدا.
يا أبناء وطني وأشقائي في سيناء - خاصة على الشريط الحدودي الشرقي -  يا «سيناوية».. يا «مصراوية»، نقدر حجم محنتكم، فقبلكم عانى منها مصريون كثر في مراحل زمنية مختلفة عبر تاريخ هذا الوطن، وقبلكم اضطر لها نبيكم المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام. ولكل هجرة سبب، ولكل خروج مغزى.. لا تتاجروا بالقضية، ولا تشوهوا جيشكم العظيم، ولا تجعلوا من غضبكم نارا تحرق الوطن، وتحرقكم قبله. إن اضطرار الجيش إلى تهجيركم من منازلكم أمر صعب لا شك، ولكن الصعاب تهون في هذه الحرب الشرسة التي تواجهها مصر وسائر بلاد المنطقة العربية، مع عدو لم تألفه الجيوش النظامية من قبل في معاركها.. لكن نثق في قدرات جيشنا، ونثق في إيمانه بالله، ولا يليق بمصري أن يشكك في وطنية هذا الجيش أو أي من أفراده، ليس فقط لأنهم إخواننا وأبناؤنا ويمثلوننا نحن المصريين، لكن أيضا لأن تاريخهم ناصع في الذود عن هذا الوطن.. ربما تختلف معهم عندما يمارسون السياسة وتنتقدهم وتعارضهم، لكن وهم بلباس الحرب يدافعون عنا وعن تراب هذا الوطن، لا يليق بأي مصري أن يطعن أخاه غدرا بكلمات لا يمكن وصفها بأقل من «خيانة» و«خيابة» من مراهقين لا يدركون حجم الخطر، ولا يعرفون معنى الوطن.. يسيرون قطيعا وراء جماعة مارقة تروج إشاعات وتصطاد في الماء العكر من أجل أن تهدم هذا الوطن وتحطم دولته المركزية، فيسهل عليها أن تقفز من جديد على السلطة، وهو ما لن يحدث بإذن الله.
ويا كل المصريين، افتحوا بيوتكم لإخوانكم «السيناوية».. مدوا لهم يد العون والمدد، فـ«كلنا في الهمّ مصريون»، ويا مفتي مصر أغثنا بفتوى توجه صدقاتنا وزكاتنا لدعم كل المتضررين من أبناء سيناء الغالية، ويا كل جمعيات الخير أغيثوا إخوانكم في سيناء، فهم ليسوا أقل محبة في قلوبنا من أهل غزة، ويا كل شعب مصر، ويا حكومة مصر، ويا رئيس مصر، توحدوا واصطفوا في مواجهة هذا الخطر المرعب.. توحدوا فلا نملك رفاهية الاختلاف والتناحر والتشرذم.. توحدوا على كلمة سواء، كي ننقذ وطنا في مهب الريح، قبل أن يفوت الوقت.
وأخيرا، يا سيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، نعلم صعوبة المسؤولية، ونقدر شجاعتك في قبولها، ورغبتك الصادقة في إنقاذ مصر القديمة، وبناء مصر الجديدة، لكن قبل الإنقاذ والبناء، ليس أمامك إلا لمّ الشمل، الذي لن يتأتى بإرهاب مضاد يمارسه زبانية الإعلام على كل رأي أو فكر أو موقف يتخذه مصري يعارضهم في الرأي.. يا سيادة الرئيس؛ الشباب في مصر قنبلة ستنفجر في وجوهنا جميعا، ولن تفلح معهم كل الألاعيب الأمنية والحيل المخابراتية.. المجتمع يغلي يا سيادة الرئيس، وأنت فقط في يدك أن تنزع فتيل الأزمة وتوحد الجميع في خندق المعركة تحت نداء «الله أكبر».. صرخة الجيش المصري التي ترعب أعداءه منذ فجر التاريخ.
#الجيش_المصري_رجال
#تحيا_مصر



الصور نقلا عن - رويترز
 تظهر منزل قبل و بعد تفجيره خلال عملية عسكرية من قبل قوات الأمن المصرية في مدينة رفح المصرية بالقرب من الحدود مع جنوب قطاع غزة .

الأحد، 20 أبريل 2014

حادثة بائع الترمس

العالمُ يتغير بفكرة، الكونُ يصبح أجملَ بابتسامةٍ أو وردةٍ أو كلمةٍ طيبةٍ، كلُّ شيءٍ قابلٌ لأن ينقلبَ رأسًا على عقبٍ في لحظة.. أشرسُ المجرمين تقتله حشرة، وأضعف المرضى تشفيه حبَّة سوداء.. هي حكمة الله في أرضه وسر كلمته «كُنْ» فيتبدَّل الحال ويتغير.


دارت هذه الكلمات في رأسي وأنا جالس خلف عجلة القيادة في سيارتي أتابع ابتسامته الهادئة وهو يمسك أكوابه البلاستيكية الشفافة الممتلئة بحبات «الترمس» الصفراء ويصفِّي كلَّ كوبٍ من الماء في طبق بلاستيكي أحمر ويرصُّها في شكل هرمي لطيف، يقف شاهدًا على «عشمه» في الرزق الحلال.
إنه بائع الترمس الذي ألمحه كل يوم في الموعد نفسه -الثانية ظهرًا- يقف على رصيف المنتصف عند نهاية طريق النصر في الطريق إلى المعادي، بمواجهة «منشية ناصر»، والذي تمنحه حالة الزحام الشديد - في هذا الوقت الذي يوصف بـ«الذروة»- فرصةً تسويقيةً كبيرةً؛ حيث تتباطأ السيارات أو تتوقفُ تمامًا أمامه، ويكون «ترمسه» وسيلةَ تسليةٍ وتغذيةٍ مميزةً، خاصةً لسائقي الميكروباص والأجرة ممن لا يخشَون التلوثَ، أو حتى لسائقي الملاكي، الذين يدفعهم الفضول لدخول مغامرة «الرمرمة».
أتذكَّرُ أولَ مرةٍ لاحظتُ وجودَ هذا البائع وكيف كانت ثيابه رثَّة ومتسخة تدعو للشفقة، وكان طليق اللحية حزينا، يرتدي «شبشب» في قدميه، على الرغم من برد الشتاء القارس، وكيف أصبحت حالته اليوم بعد شهور قليلة قضاها على هذا الرصيف.. لقد تحسَّنت حالتُه الظاهريةُ، كما أن وجهَه الحزين باتَ أكثر تفاؤلاً.
ابتكر البائعُ المِصري فكرةَ «البيع في منتصف الطريق»، باحثًا عن آفاقٍ جديدة للرزق، مُستفيدًا من الزحام الدائم لمعظم شوارع القاهرة، وكالعادة عندما تنجح فكرة تنتشر، وبسرعة.. وعليه، ظهر البائعون أعلى كوبري أكتوبر، وأبرزهم: «بائع السميط»، كما ظهروا في شارع الحسين، يتزعمهم «بائع السوبيا» الذي يحمل «صينية» ممتلئة بأكياس بلاستيكية ينتهي طرف كل منها بـ«شفاط» مُلوَّن، وغيرها من تقاليع البيع وابتكارات المنتَجات التي تلبِّي حاجة «الزبون» المسجون داخل سيارته.
إن انتشار الباعة الجائلين في الشوارع المصرية ليس أمرًا جديدًا؛ بل إنه أصبح كارثة تزعج الجميع، بعد أن تحوَّل -في أعقاب «يناير 2011» وما تلاها من انفلات- إلى سرطان ينهش حرمةَ الطرقاتِ ويزيد من فوضى حياتنا التي لا تحتمل المزيدَ، وربما تنجحُ الحكومة الحالية وحكومات ستخلفها في وضع «روشتة» واقعية لهذا المرض.. وحتى يتحقق هذا، علينا أن نتعامل مع بعضِ إيجابياتِ هذا المرض؛ فالأمراض ليست كلها شرًّا، ومن خيرها مثل هذه النوعية التي أشرتُ إليها من باعة الزحام في منتصف الطريق.
وقد لاحظتُ من رصدي السريع لهؤلاء الباعة أن معظمهم هاربٌ من زحام البيع في المناطق التقليدية والتجمعات التجارية، بحثًا عن فرصة مختلفة، كما أن بعضهم لجأ إلى هذا الحلِّ هروبًا من بطالة تتزايد بفعل سنوات الانفعال الثوري، التي أثمرت خروجَ قطاعات مهمة من معادلة الاقتصاد المصرية، وأشهرها قطاع السياحة، الذي ألقى بمئات الآلاف من العاطلين إلى الشارع بعد توقفه شبه الكامل.
قد يزعجك هؤلاء الباعة، وقد تتعاطف معهم.. في الأحوال كلها، أرجو ألا تفكر في مشكلتهم من وجهةِ نظرِكَ فقط.. اسرح بخيالِكَ وفكِّر في عدد الأفراد الذين يعولهم كل منهم، وكيف أن مكسبه البسيط من تجارته المتواضعة يحمي المجتمع من أن يتحوَّل هذا البائع الشريف، أو أيٌّ ممن يعولهم، إلى مجرم أو إرهابي يعترض طريقك أو يخطف طفلك، أو ربما يزرع «بدائية الصنع» تحت سيارتك فتخسرها وتفقد قبلها حياتك.
إن هؤلاء البسطاء أفضل من آخرين تتكدس بهم الشوارع.. ما إن تتوقف بسيارتك في أيِّ مكان حتى يطاردوك بتسولهم الظاهر وطلبهم «اللزج» للمال، أو بتسولهم الخفي من خلال احتكارهم لمهنة «الركين» المستحدَثة منذ سنوات.. إن هؤلاء «الأراذل» هم من يستحقون السخط واللعنة، أما الشرفاء الباحثون عن «اللقمة» الحلال بـ«عرق جبينهم» فهؤلاء يستحقون الاحترام.
شعر بائع «الترمس» بتركيزي معه ومتابعتي لحركاته، فنظر إليَّ مبتسمًا وناولني كوبًا من الترمس، قائلاً: «ما تكسفش إيدي يا باشا». نظرت إليه مترددًا وشكرته، لكن إصراره الذي دعمه بـ«كبشة» ترمس -إضافية- امتلأت بها يدي، حسم القرار، وعندما هممتُ أن أدفعَ له ثمنَ كوب الترمس، كان قد عاد لمكانه رافضًا، في الوقت ذاته تحركت السيارات من أمامي وأنفتح الطريق وارتفع صوت «الكلاكسات» المزعج يطالبني بالحركة الفورية، فناولته مسرعًا ما قدَّرتُهُ سعرًا للترمس، فتلقَّفه بسعادةٍ ورضا لمحتُهما في عينيه وأنا أراقب ردَّ فعله في مرآة السيارة الجانبية قبل أن أصطدم بالرصيف وأرتد بعجلة القيادة عكسيًّا فتصطدم سيارتي بسيارة «ميكروباص» مسرعة كانت تمر بجانبي..

الحمد لله.. قدَّر ولطف..

الخميس، 3 أبريل 2014

مبادرة أخيرة .. قبل الطوفان


عندما نستيقظ كل فجر على دم جديد، فإن الوطن يتحول إلى مقبرة جماعية، تستقبل كل يوم دموع أم وأنين أطفال وحسرة زوجة وجسد ميت يحتضنه علم مصر، شهيد جديد يضاف إلى القائمة التي اختارها القدر لتفتدي الوطن وأبناءه وتسدد عنه فاتورة الغباء السياسي والعجز الأمني والبغاء الديني الذي يمارسه الجميع ضد الجميع.
عندما نصبح كل يوم لنجد أنفسنا جميعًا في طابور انتظار الموت.. نترقب انفجار القنبلة.. نترقب حصادها.. نترقب ردود الفعل من لطم وعويل.. نترقب قرارات حكومية باهتة.. ونظرات عدائية شامتة.. نترقب اليوم لينتهي.. لننتظر يومًا جديدًا.. لنترقب..
أيها الأخوة .. 
أستعيرها من خالد الذكر «جمال عبد الناصر»، الذي استسلم قبل عشرات السنين لنصائح رجاله، وقرر أن يواجه تنظيم الإخوان أمنيًّا واستمر من بعده الجميع، إلا من رحم ربي من رجال أعملوا عقولهم فتعاملوا مع هذا الملف ببعض التفكير، فأوقفوا نزيف التكفير المجتمعي الذي سنته هذه الجماعة الأم وبناتها من جماعات الدين السياسي بكل بطونه وقوالبه وتياراته.
أيها الأخوة .. والأخوات ..
إن الموت يقف على باب كل منا، وإن كان قدرنا أن نموت جميعًا فلنمُت وصدورنا مفتوحة، نواجه عدوَّنا بكل شموخ وكبرياء، لا يليق بنا أن ننتظر الموت خائفين خانعين نركض ركض جبان خنيث يطارده شبح الموت في كل لحظة وفي أي مكان. فلتعلموا قبل أي شىء أنها حكمة الله وإرادته؛ يدرككم الموت أينما تكونوا، فلا تهنوا ولا تحزنوا ولا تخشوا إلاه، عز وجل.
بني وطني..
ماذا نحن فاعلون في مواجهة عدونا؟ ماذا سنعد له من قوة ومن رباط الخيل كي نرهبه؟ وقبل أن نجيب عن أول السؤالين، تعالوا نتفق أولاً على هذا العدو ووصفه، ونسميه باسمه ونشير إليه بأصابعنا دون تردد أو شفقة، عدونا يا إخواني هو هذه الجماعة المارقة وإفرازاتها من جماعات شقيقة، أكدت الأعوام الثلاثة الماضية أنها حاضنتهم وملهمتهم في كل أعمال العنف التي يرتكبونها في حق أبناء الشعب المصري، أعني -وبكل وضوح- من سموا أنفسهم الإخوان المسلمين كذبًا وزورًا وبهتانًا، هؤلاء الذين خانوا الله وأساءوا للإسلام في كل مكان وزمان.
لقد أفسدت هذه الجماعة -وما زالت- حياة المنطقة بأكملها ولوَّثت ودنست دولاً ودمرت شعوبًا عربية مسلمة بمنهجها الفكري الفاسد ومشروعها السياسي الفاشي وحولت جسدها المهترئ لعاهرة يمتلكها من يدفع المال المطلوب، وما أكثرهم طيلة ثمانين عامًا، لم تتورع فيها عن مضاجعة الجميع مقابل أن تؤسس تنظيمها الدولي؛ وتخطط لحلمها الماجن الذي استلهمه حسن البنا من تيودور هرتزل، مؤسس الصهيونية العالمية.. إن بني إخوان وبني صهيون وجهان لمشروع واحد لإفساد حياة الناس تحت غطاء الدين، بتدجينهم وتجييشهم وفق أهداف ومشروعات محددة ترعاها قوى الشر التي تتحكم في العالم من غربه إلى شرقه ومن شماله إلى جنوبه.

لن أستطرد أكثر في الحديث عن الجماعة؛ فما كانت تجهله أجيال جديدة من شباب مصر عندما قامت ثورة 25 يناير 2011 ودفعها لتسقط في براثن هؤلاء الفَسَدة من تجار الدين، عرفته في عام واحد تحت قيادة «المرسي» وبتجربة عملية وعلنية، وأدرك الجميع مآثر الإخوان الذين أدخلونا، مع «مبارك» ونظامه، هذا النفق المظلم الذي لن نخرج منه إلا إذا تمردنا على طرقنا التقليدية في التفكير وخرج منا من هداه الله إلى إبداع مختلف في طرق التعامل مع هذا الملف المصيري الذي لن ينهيه إلا هدف واضح، هو القضاء النهائي على هذا السرطان الذي ينهش جسد وطننا وأمتنا.. حافزنا هو هذه اللحظة التاريخية النادرة التي تكاتفت فيها أيادي الأشقاء في كل من السعودية والإمارات مع مصر لمواجهة خطر وإرهاب وفساد هذه الجماعة الملعونة، وهي سابقة لم تُكرَّر مع هذه الجماعة التي كانت تستغل دائمًا الخلافات المصرية - السعودية والتنافس السياسي بينهما كسبيل لها لتحقيق مكاسب أسهمت إلى حد كبير في تنامي دورها وانتعاش اقتصادها.
بني وطني ..
قبل أن نعلنها حربًا شرسة لاجتثاث جذور هذا التنظيم من قلب وعقل كل عربي مسلم، يجب أولاً أن نفتح أبواب التوبة للجميع، يجب أن نجد مخرجًا لإنقاذ آلاف الشباب المخدوعين الذين تورطوا و«تأخونوا» -أو احترموهم- وبخاصة في السنوات الثلاث الأخيرة التي منحت فيها الدولة المصرية هذا التنظيم شرعية قانونية لم يحصل عليها من قبلُ، وهو ما أغرى بعض الوطنيين الغيورين على دينهم كي ينضووا تحت لواء الجماعة المخادعة، وانخرطوا في تنظيماتها وفعالياتها حتى انقلب السحر عليهم في «رابعة العدوية» في أعقاب 30 يونيو 2013، واستغلت قيادات الجماعة آلاف المتدينين بفطرتهم ممن ورطتهم الظروف أو ممن تم غسل أدمغتهم، طوال الشهور الماضية، تحت راية تحالف الشرعية الوهمية التي روَّجت لها الجماعة وأنصارها.. إن هؤلاء في ورطة حقيقية الآن، ومَن منهم يتمنى أن يعود إلى صفوف الوطن يجد الأبواب كلها موصدة أمامه؛ فماذا تظنونه فاعلاً؟ إننا دون أن نعي، بإهمالنا شرائح عدَّة من هذا التنظيم ربما تتمنى أن تتوب، نُمد هذه المارقة بزاد من البشر يُستخدم كواجهة بشرية للتجييش والحشد، وربما لارتكاب حماقات وجرائم تنطوي تحت عباءة الإرهاب.
علينا أن نتكاتف لننقذ بعض بني الوطن الذين ما زال فيهم عقل ويريدون أن يقفزوا من مركب الجماعة الغارق لا محالة، أو بعض هؤلاء ممن على أعتاب طريق التوبة ويُرهَبون من قِبَل الجماعة بما سينالهم من بطش أمني ندركه جميعًا حتى لو بخيالنا.
إن إشعال الحريق عمل يسير، لكن إخماده مشقة تتطلب حكمة وجسارة وجدًّا، ليس من العقل أن نسكب البنزين على الحريق أو أن نتخيل أن الماء سيخمد نارًا تلظَّى، إن الجسد المحترق يحتاج يدًا قوية تنتزعه من وسط النار وتدثره ببُردة من نسيج الوطن وتخرج به بعيدًا.

وحتى لا يكون حديثي مجرد «فش خلق» أو «طق حنك» سأحاول أن أكون أكثر عمليةً باقتراحًا أراه يمثل جزءًا من الحل، أما بقية الأجزاء فسأوجزها في خاتمة المقال وسأفصلها في مقالات تالية ربما تحمل العنوان ذاته.. واقتراحي يأخذ شكل مبادرة أتمنى على الله أن تجد طريقها إلى نهر الإعلام السيَّال، لعلها تصل إلى صانع القرار وتتحول إلى فعل حقيقي ينقذ هذا البلد من محنته، ويوقف نزيف البشر المستمر منذ الخامس والعشرين من يناير 2011 وحتى اليوم.


مبادرة التوبة المشروطة

هي دعوة مشروطة إلى كل من انتمى أو ساعد أو دعم هذا التنظيم وهذه الجماعة المارقة وبطونها، بأن يعلنوا تبرؤهم العلني في وسائل الإعلام من علاقتهم بهذه الجماعة ورفضهم الصريح للعنف بكافة أشكاله، بشرط ألا يكونوا قد تورطوا في أعمال إجرامية يحاسب عليها القانون، على أن تتعهد الدولة بمنحهم «صك براءة ذمة» يحميهم من أي ملاحقة أمنية ويمنع عنهم أذى وعبث بعض أفراد الأجهزة الأمنية، ويسمح لهم بممارسة جميع حقوقهم السياسية وفق القواعد التي أقرها الدستور ونظمها القانون.
على أن تتشكل لجنة عليا للمبادرة تُجري مقابلة مع كل طالب لهذا الصك من التالية أسماؤهم، وهي قائمة مقترحة يمكن أن تتسع لآخرين على أن تضم اللجنة ثلاثة من كبار علماء الأزهر:
1- شيخ الأزهر (أو من ينوب عنه).
2- كمال الهلباوي.  
3- مختار نوح.
4- ثروت الخرباوي.
5- محمد حبيب.
6- ناجح إبراهيم.
7- كرم زهدي.
ويقوم عمل هذه اللجنة على فكرة الحوار السياسي والديني مع الراغبين من عناصر هذه الجماعة أو حلفائها في أن يجدوا مخارج فقهية تنير لهم الطريق المظلم الذي وجدوا أنفسهم فيه، وتكون خطوة على طريق التوبة وفق التوضيح السابق.
إن دمج التائبين واستقطاب العناصر الراغبة في الهروب والنجاة من براثن هذه الجماعة، هو عمل لا تقل قيمته عن الجهاد في سبيل الله؛ لأننا ننقذ أسرًا بأكملها من الانهيار والضياع ونمنعها من الانزلاق في أوحال الجريمة ومعاداة الوطن، لتتحول من صفوف الأعداء وتصطف معنا في حربنا لبناء المستقبل.
أوضحتُ أن مبادرة التوبة المشروطة هي جزء من حل، وأرى أن بقية الأجزاء تتلخص في مناخ عام يزيل الاحتقان بين فرقاء الوطن وفصائله، ولن يتأتى هذا المناخ إلا بمزيد من الحرية المسئولة، وبتحقق كامل للممارسة الديمقراطية تحت إشراف دولي وبأن تُجرى انتخابات الرئاسة والبرلمان في إطار من الشفافية يمنع أي لغط حول شرعيتهما.
كما يجب على الدولة أن تتخذ عددًا من الإجراءات العاجلة، أهمها: إسقاط الجنسية المصرية عن كل من يثبت بشكل قانوني انتماؤه لهذه الجماعة أو أي من بطونها الإرهابية، ويجب أيضا أن يقف القضاء المصري وقفة صادقة مع نفسه في التعجيل بمحاكمة المتورطين في أي من الجرائم الإرهابية من الإخوان وأتباعهم، وأن تكون هذه المحاكمات عادلة ولا تمنح الفرصة للسخرية من قضائنا وأحكامه المستغرَبة في بعض الأحيان، مع ضرورة أن يتم التنسيق بين وزارتي الخارجية والعدل بعقد مؤتمرات عالمية لتوضيح -للرأي العام المحلي والدولي- حيثيات بعض الأحكام التي قد تبدو مثيرة. 
وأخيرًا لا مفرَّ من أن يتيقن أي نظام سيحكم مصر أنه لن تقوم له قائمة إلا بتمكين الشباب من المشاركة الحقيقية في الحكم، ومنحه أملاً واضحًا في مستقبل يرسمه بأفكاره ويشيده بسواعده.

وللحديث مبادرات أخرى .. 





الثلاثاء، 25 مارس 2014

نور .. قطع !!


هكذا تنطقها صغيرتي وحبيبة قلبي «مريم» عندما ينقطع النور فعلاً أو عندما نطفئ إضاءة المنزل في أي وقت ولأي سبب. ترددها بهستيريا وتكررها في إلحاح -يكون مزعجًا في معظم الأحيان- يصيبني وأمها بالجنون فنردد معها بصوت عالٍ: «أيوه يا مريم.. النور قطع».. ونحوِّلها مع الوقت إلى ترنيمة غنائية نلحنها ونغنيها كالمجاذيب، حتى يكرمَنا اللهُ بعودة النور أو يزيد من كرمه بأن تملَّ «مريم» فتصمت ثم تستسلم للنوم فيلتقط أفرادُ الأسرة كلهم أنفاسَهم، مرددين المأثور الشهير: «نوم الظالم عبادة».
لا تدري «مريم»، ذات العامين، أنها اختزلت بعبارتها الرشيدة «نور.. قطع» كل المستقبل الذي ينتظرها هي وجيلها من أطفال مصر، هذا ليس تشاؤمًا، لكنه إقرارُ واقعٍ لاحت بشائره فيما نعيشه من حاضر مرعب.
لا أتوقف عند «نور.. قطع» خدمة وزارة الكهرباء والحلم النووي وطاقة الشمس والرياح، وهذا الفيلم الذي نسمع عنه منذ طفولتنا ولم تخطُ أيَّةُ حكومة مصرية خطوةً جادةً نحو تنفيذه، لكني سأتوقف اليوم عند «نور.. قطع» خدمة وزارة الثقافة ودور كتيبة مثقفيها ومبدعيها وفنانيها، وأقصد هنا «التنوير» الحلم الذي يُثار غُبارُه في الجوِّ مع كل موسم للحرب على «الإرهاب».
لا شك أنَّ أخطر ما كشفته لنا «حركة يناير وتبعاتها»، وفق تشبيه مثقف مصري، هو أن «بكابورت» مصر طفح بما في المصريين من جهلٍ وتخلفٍ وفقرٍ وتطرفٍ وبلطجةٍ وسوقيةٍ وعشوائيةٍ.. و«كل الحاجات الكُخَّه ديَّه» على رأي مثقف آخر، لكنه من فصيل يحارب فصيل المثقف الأول.. وما بين دولةٍ تسعى إلى تطوير التعليم منذ عهد الفراعنة ولم تنجح، حتى تاريخه، في فك رموز وطلاسم «حجر التطوير»، إلى مثقفين من فصيلَي «البكابورت» و«الكُخَّه»، يمكن بسهولةٍ أن ندركَ مصيرَ مِصرَ وطفحها ومستقبل أبنائها.
العقل المصري «مظلم».. واقع لا تخطئه عين، حاوِلْ أن تدخُلَ في نقاشٍ مع أي مواطن مصري حول أي موضوع، ستكتشف الكثير من ملامح «انقطاع النور»؛ فهو لن يقبل برأيك المخالف وسيعتبرك عدوًّا، وربما تحوَّل النقاش بينكما إلى مشاجرة. لقد مَسخَت سنواتُ التجريف المباركي «شخصيةَ مصر» وأضاعت سحرَ عبقريتها ولم يتبقَّ منها إلا أطلال تظهر بين الحين والآخر.. هذا رأي لمثقف ثالثٍ يكره الجميع.
ويعتبر «الإرهاب» أو «التطرف الديني» هو التجسيد الواضح لمشروع «البكابورت»، الذي ظهرت إرهاصاته المتتالية بعد يناير 2011 وفاحت رائحتُه منذ «غزوة الصناديق»، مرورًا بـ«جمعة قندهار»، وحتى «برلمان الثورة» وأذانه ونائبه البلكيمي، وليس انتهاءً بمقتل القطب الشيعي حسن شحاتة قبل أيام من «30 يونيو»، الذي أسقط آخر ورقات التوت ليفضح عورات الجسد الإخواني قبل أن يخرج علينا بقصته الكوميدية «عبث الأقدار» التي تظهر فيها «رابعة» وهي تؤم «بديع» و«حجازي» و«البلتاجي» و«العريان» في صلاتهم الأخيرة قبل الزوال.. هذا قليل من كثير من تفاصيل أطلت علينا خلال ثلاث سنوات بفعل تُجَّار الدين وكابوسهم الذي أهدر حلمَ الثورةِ وأضاع دماءَ الشهداءِ سُدى.
حتمًا سيقفز سؤال إلى بالك: وهل يمكن أن يعود «النور» إلى هذه العقول المظلمة؟! لا شكَّ أن الأمر صعبٌ ويحتاج إلى جهد فكري شاق؛ فالعقلية الظلامية، خاصة من المسحورين بالدين والمكبَّلين تحت وطأة «السمع والطاعة»، يصعب أن تُخرجهم من هذا السرداب وتقنعهم بأن يستمتعوا بضوء الشمس المنعش، خاصة أن معظمهم يكون قد فقد بصره وأصبح غير مقتنعٍ بوجود «نور» أصلاً.
ولأن الحاجة هي أم الاختراع، فإن دور المجتمع الذي يرغب في إنهاء عتمته الفكرية أن يبحث عن وسائل مستحدثة لإنارة عقول أبنائه وتثقيفهم وتوعيتهم، وعلى كل فنان ومبدع أن يبتكر أوعية تنويرية تساعد على وصول دماء الثقافة والتحضُّر إلى شرايين تصلَّبت وفقدت إنسانيتها، هذا إن صدقت النوايا وكان هدفًا حقيقيًّا لنا جميعًا أن نعيشَ في النور، وهو ما أشكُّ فيه. نظرة معمَّقة لكل ما يدور حولنا تزيد هذا الشك، خاصة عندما تَسمعُ أصواتًا عالية لعُشَّاق العتمة، وترى ضعف الشخص الواقف بجوار «كُبس النور» وعدم قدرته على مقاومة إغراء السلطة وشهوة الحكم، التي تتفاقم بوجود طبقة لزجة تحيطه من كل جانب تدفعه لكي يبقى «الكُبس» مغلقًا ليأمن شرَّ العيون المبصرة.

أعلم أن المشهد يبدو سرياليًّا، خاصة عندما تعود «مريم» إلى صراخها المتكرر: «نور.. قطع»، ويبقى أبوها حائرًا إلى من يتجه بشكواه: إلى وزير الكهرباء أم وزير الثقافة أم إلى «الراجل اللي واقف جنب كُبس النور»!!


الأربعاء، 19 مارس 2014

حدارجة .. بدارجة !!


عندما هبطَت الطائرة التي كانت تحملُني إلى العاصمة الصينية بكين، في فبراير عام 2001، ومع ما سبق عملية الهبوط من «مخمضة» مرعبة استمرت لأكثر من ساعتين، كانتا الجزء الأخير من رحلتي الطويلة التي تجاوزت العشرين ساعة، شعرتُ بأن زلزالاً كبيرًا سيجتاحُ حياتي وأنَّ ما سبق هذا التاريخ سيكونُ ماضيًا بلا رجعة، وأن القادم هو ميلادٌ جديد، ووصفتُ الزيارةَ - مازحًا - بعد يومين من وصولي إلى بكين، في رسالة إلكترونية لصديق عمري، بأنها أشبه بزيارة «السادات» إلى القدس، وأنها ربما تغيِّر التاريخ، تاريخي الشخصي بالطبع، وقد كنتُ، وما زلتُ، أذكر عنوان رسالتي هذه، الذي كان قاسيًا وفجًّا، كتبته بإحباط وقرف ورفض لما وصل إليه حالُنا في مصر.. كتبته ناقمًا على هذا الشعب تحمُّلَه كل هذا الذل والهوان وعدم قدرته على أي فعل حقيقي، مما جعل صورة المستقبل مظلمةً أمامي وأمام جيلي وأجيالٍ أخرى تالية؛ حيث عنونتُ رسالتي بـ«الخروج من صفيحة الزبالة»، وكنت – بالطبع - أقصد أن مصر هي «الصفيحة»، ويمكن أن يُفهم بسهولة المقصود بـ«الزبالة»!!
تذكرتُ رسالتي هذه قبل أيام وأنا أتابع واحدًا من أشهر إعلاميي الـ«توك شو» في العالم العربي، في برنامجه اليومي، وهو يهيل التراب على المصريين ويصفهم بالكسالى والمتراخين وأن عليهم أن يتحركوا ويعملوا بذمة وضمير وأن يكفوا عن انتظار البطل الذي سينقذهم؛ لأنه لا أحد يملك عصا سحرية لحل كل المشكلات المزمنة التي يعانيها البلد، ويبدو أن حديثه هذا متَّفَق عليه مع «جوقة» الطبل والزمر الإعلامي في فضائنا المصري، وبإيعازٍ ربما يكونُ من جهات عالِمة ببواطن الأمور، فقد اتفق أغلبهم على أنه علينا كمصريين أن نتغيَّر، وذهب كل منهم في تفنيد مساوئ هذا الشعب المسكين من وجهة نظره، ليعرض - بمنطق العالِم - وسائلَه لكي يتغير هذا الشعب «البليد» كي يكون جديرًا بمن سيأتي ليحكمه!!
وأعود مرة أخرى إلى بكين وحديث لم يتكرر في السياسة مع المترجم الصيني الذي رافقني في زيارتي الأولى إليها؛ فقد دفعني انبهاري بما رأيته وقرأته عن المعجزة الصينية أن أسأله عن رأيه في سر قفزة بلاده إلى القمة وأسباب وأسرار تقدمها الذي أبهر العالم بسرعته، فأجابني باقتضاب شديد: «لقد أسعدنا الحظ وصعد إلى قمة السلطة شخصٌ أحبَّ الصين بصدق، وأدرك أنَّ البشر هم ثروتُها الحقيقية وكنزها الخالد، وفورًا وضع قوانين جديدة ورتَّب الدولة لكي يستخرجَ هذه الثروة ويفجِّرَها، فانطلق التنين الصيني».. وقتها تساقطت دموعي أمام الفتى «شياو» من فرط الضحك؛ فقد تذكرتُ كيف يعايرنا «الريس» مبارك - ربنا يشفيه من مرضه العضال ويفرَّحه ببراءة العيال - ففي كل خطاب له، طوال فترة حكمه المديدة، كانت له فقرة ثابتة يتحدث فيها عن الزيادة السكانية الرهيبة ويختمها بابتسامة ذات مغزى، طالبًا من المصريين أن «يبطلوا خلفة؛ لأنه مش عارف يجيب لهم أكل منين».. وكأنه كان يخشى أن يتكاثروا عليه بالملايين وينفجروا!!
وقد كان.. فهؤلاء هم الملايين الذين تجلت فيهم العبقرية المصرية في مشهد سيخلِّده التاريخ، مشهد التحرير / يناير 2011 - أيًّا ما كان اسمُ الحدث ومهما كان رأينا في ما تلاه من أحداث - فلقد كانت ملحمة مُدهشة عكست تحضُّر هذا الشعب العظيم ورقيَّه، وردت على عنوان رسالتي التي سبقت «ثورة يناير» بعشر سنوات، وترد أيضًا على إعلاميي «اليوم» في حملتهم التي تمهِّد الطريق لما هو قادم، ذلك على الرغم من مرور ثلاث سنوات على هذا المشهد الفريد، الذي أكد - بما لا يدع مجالاً للشك - أن الشعب المصري قادر على صنع المعجزات عندما توجد الأسباب، لكن يبدو أنه لا أحد يفهم أو يدرك هذه المعلومة.

وعلى ذكر الثورة وما حدث لنا كمصريين بعدها، من تطاحن وفرقة وصراع فجٍّ على السلطة، كنتُ بميدان التحرير في إحدى التظاهرات التي تفجَّرت بعد إعلان «مرسي» الدستوري في نوفمبر 2012، ولفت نظري رجلٌ يحمل مبخرةً ويلف بها الميدان وأثارني بجديته وصوته العالي، اقتربت منه فسمعته يرتل قائلاً: «حدارجة بدارجة.. من كل عين زارجة.. يا شجرة بلا ورق.. الغم والحزن والحسد عنك يتفرق.. أم النبي رقت النبي بالصلاة على النبي اللهم صلِّ عليه».. ويكرر ما يقوله بحماس وانفعال وصدق، وتوقفت سيدة عجوز بيننا تستمع بتأثر، ثم ابتسمت وقالت: «عليه الصلاة والسلام.. تصدق والنبي معاك حق.. مصر شكلها اتحسدت.. بس إن شاء الله نرجع زي ما كنا في يناير مع بعض إيد واحدة (ونظرت إليَّ) والله يا ابني شكلها محسودة عشان كده كلنا لازم نرقيها». وارتفع صوت السيدة مع الرجل تردد ما يقوله.. ووجدتني أبتعد وأردد هامسًا: «حدارجة.. بدراجة.. من كل عين.. سارجة»!!

نشر في مجلة 7 أيام عدد 61 بتاريخ 18 مارس 2014




التاريخ في حضرة الشامة (1) - 19 يوليو 2014

كنا في أواخر شهر رمضان، جاي لي تليفون من شخص  كنت شايف إنه أذاني جدا، واتسبب لي في اكبر خسارة حصلت لي في حياتي..  وكنت مسخر نفسي بادعي عليه ...