هكذا تنطقها صغيرتي وحبيبة قلبي
«مريم» عندما ينقطع النور فعلاً أو عندما نطفئ إضاءة المنزل في أي وقت ولأي سبب. ترددها
بهستيريا وتكررها في إلحاح -يكون مزعجًا في معظم الأحيان- يصيبني وأمها بالجنون فنردد
معها بصوت عالٍ: «أيوه يا مريم.. النور قطع».. ونحوِّلها مع الوقت إلى ترنيمة غنائية
نلحنها ونغنيها كالمجاذيب، حتى يكرمَنا اللهُ بعودة النور أو يزيد من كرمه بأن تملَّ
«مريم» فتصمت ثم تستسلم للنوم فيلتقط أفرادُ الأسرة كلهم أنفاسَهم، مرددين المأثور
الشهير: «نوم الظالم عبادة».
لا تدري «مريم»، ذات العامين،
أنها اختزلت بعبارتها الرشيدة «نور.. قطع» كل المستقبل الذي ينتظرها هي وجيلها من أطفال
مصر، هذا ليس تشاؤمًا، لكنه إقرارُ واقعٍ لاحت بشائره فيما نعيشه من حاضر مرعب.
لا أتوقف عند «نور.. قطع» خدمة
وزارة الكهرباء والحلم النووي وطاقة الشمس والرياح، وهذا الفيلم الذي نسمع عنه منذ
طفولتنا ولم تخطُ أيَّةُ حكومة مصرية خطوةً جادةً نحو تنفيذه، لكني سأتوقف اليوم عند
«نور.. قطع» خدمة وزارة الثقافة ودور كتيبة مثقفيها ومبدعيها وفنانيها، وأقصد هنا «التنوير»
الحلم الذي يُثار غُبارُه في الجوِّ مع كل موسم للحرب على «الإرهاب».
لا شك أنَّ أخطر ما كشفته لنا
«حركة يناير وتبعاتها»، وفق تشبيه مثقف مصري، هو أن «بكابورت» مصر طفح بما في المصريين
من جهلٍ وتخلفٍ وفقرٍ وتطرفٍ وبلطجةٍ وسوقيةٍ وعشوائيةٍ.. و«كل الحاجات الكُخَّه ديَّه»
على رأي مثقف آخر، لكنه من فصيل يحارب فصيل المثقف الأول.. وما بين دولةٍ تسعى إلى
تطوير التعليم منذ عهد الفراعنة ولم تنجح، حتى تاريخه، في فك رموز وطلاسم «حجر التطوير»،
إلى مثقفين من فصيلَي «البكابورت» و«الكُخَّه»، يمكن بسهولةٍ أن ندركَ مصيرَ مِصرَ
وطفحها ومستقبل أبنائها.
العقل المصري «مظلم».. واقع لا
تخطئه عين، حاوِلْ أن تدخُلَ في نقاشٍ مع أي مواطن مصري حول أي موضوع، ستكتشف الكثير
من ملامح «انقطاع النور»؛ فهو لن يقبل برأيك المخالف وسيعتبرك عدوًّا، وربما تحوَّل
النقاش بينكما إلى مشاجرة. لقد مَسخَت سنواتُ التجريف المباركي «شخصيةَ مصر» وأضاعت
سحرَ عبقريتها ولم يتبقَّ منها إلا أطلال تظهر بين الحين والآخر.. هذا رأي لمثقف ثالثٍ
يكره الجميع.
ويعتبر «الإرهاب» أو «التطرف الديني»
هو التجسيد الواضح لمشروع «البكابورت»، الذي ظهرت إرهاصاته المتتالية بعد يناير 2011
وفاحت رائحتُه منذ «غزوة الصناديق»، مرورًا بـ«جمعة قندهار»، وحتى «برلمان الثورة»
وأذانه ونائبه البلكيمي، وليس انتهاءً بمقتل القطب الشيعي حسن شحاتة قبل أيام من «30
يونيو»، الذي أسقط آخر ورقات التوت ليفضح عورات الجسد الإخواني قبل أن يخرج علينا بقصته
الكوميدية «عبث الأقدار» التي تظهر فيها «رابعة» وهي تؤم «بديع» و«حجازي» و«البلتاجي»
و«العريان» في صلاتهم الأخيرة قبل الزوال.. هذا قليل من كثير من تفاصيل أطلت علينا
خلال ثلاث سنوات بفعل تُجَّار الدين وكابوسهم الذي أهدر حلمَ الثورةِ وأضاع دماءَ الشهداءِ
سُدى.
حتمًا سيقفز سؤال إلى بالك: وهل
يمكن أن يعود «النور» إلى هذه العقول المظلمة؟! لا شكَّ أن الأمر صعبٌ ويحتاج إلى جهد
فكري شاق؛ فالعقلية الظلامية، خاصة من المسحورين بالدين والمكبَّلين تحت وطأة «السمع
والطاعة»، يصعب أن تُخرجهم من هذا السرداب وتقنعهم بأن يستمتعوا بضوء الشمس المنعش،
خاصة أن معظمهم يكون قد فقد بصره وأصبح غير مقتنعٍ بوجود «نور» أصلاً.
ولأن الحاجة هي أم الاختراع،
فإن دور المجتمع الذي يرغب في إنهاء عتمته الفكرية أن يبحث عن وسائل مستحدثة لإنارة
عقول أبنائه وتثقيفهم وتوعيتهم، وعلى كل فنان ومبدع أن يبتكر أوعية تنويرية تساعد على
وصول دماء الثقافة والتحضُّر إلى شرايين تصلَّبت وفقدت إنسانيتها، هذا إن صدقت النوايا
وكان هدفًا حقيقيًّا لنا جميعًا أن نعيشَ في النور، وهو ما أشكُّ فيه. نظرة معمَّقة
لكل ما يدور حولنا تزيد هذا الشك، خاصة عندما تَسمعُ أصواتًا عالية لعُشَّاق العتمة،
وترى ضعف الشخص الواقف بجوار «كُبس النور» وعدم قدرته على مقاومة إغراء السلطة وشهوة
الحكم، التي تتفاقم بوجود طبقة لزجة تحيطه من كل جانب تدفعه لكي يبقى «الكُبس» مغلقًا
ليأمن شرَّ العيون المبصرة.
أعلم أن المشهد يبدو سرياليًّا،
خاصة عندما تعود «مريم» إلى صراخها المتكرر: «نور.. قطع»، ويبقى أبوها حائرًا إلى من
يتجه بشكواه: إلى وزير الكهرباء أم وزير الثقافة أم إلى «الراجل اللي واقف جنب كُبس
النور»!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق