العالمُ يتغير بفكرة، الكونُ يصبح
أجملَ بابتسامةٍ أو وردةٍ أو كلمةٍ طيبةٍ، كلُّ شيءٍ قابلٌ لأن ينقلبَ رأسًا على عقبٍ
في لحظة.. أشرسُ المجرمين تقتله حشرة، وأضعف المرضى تشفيه حبَّة سوداء.. هي حكمة الله
في أرضه وسر كلمته «كُنْ» فيتبدَّل الحال ويتغير.
دارت هذه الكلمات في رأسي وأنا
جالس خلف عجلة القيادة في سيارتي أتابع ابتسامته الهادئة وهو يمسك أكوابه البلاستيكية
الشفافة الممتلئة بحبات «الترمس» الصفراء ويصفِّي كلَّ كوبٍ من الماء في طبق بلاستيكي
أحمر ويرصُّها في شكل هرمي لطيف، يقف شاهدًا على «عشمه» في الرزق الحلال.
إنه بائع الترمس الذي ألمحه كل
يوم في الموعد نفسه -الثانية ظهرًا- يقف على رصيف المنتصف عند نهاية طريق النصر في
الطريق إلى المعادي، بمواجهة «منشية ناصر»، والذي تمنحه حالة الزحام الشديد - في
هذا الوقت الذي يوصف بـ«الذروة»- فرصةً تسويقيةً كبيرةً؛ حيث تتباطأ السيارات أو تتوقفُ
تمامًا أمامه، ويكون «ترمسه» وسيلةَ تسليةٍ وتغذيةٍ مميزةً، خاصةً لسائقي الميكروباص
والأجرة ممن لا يخشَون التلوثَ، أو حتى لسائقي الملاكي، الذين يدفعهم الفضول لدخول
مغامرة «الرمرمة».
أتذكَّرُ أولَ مرةٍ لاحظتُ وجودَ
هذا البائع وكيف كانت ثيابه رثَّة ومتسخة تدعو للشفقة، وكان طليق اللحية حزينا، يرتدي
«شبشب» في قدميه، على الرغم من برد الشتاء القارس، وكيف أصبحت حالته اليوم بعد شهور
قليلة قضاها على هذا الرصيف.. لقد تحسَّنت حالتُه الظاهريةُ، كما أن وجهَه الحزين باتَ
أكثر تفاؤلاً.
ابتكر البائعُ المِصري فكرةَ «البيع
في منتصف الطريق»، باحثًا عن آفاقٍ جديدة للرزق، مُستفيدًا من الزحام الدائم لمعظم
شوارع القاهرة، وكالعادة عندما تنجح فكرة تنتشر، وبسرعة.. وعليه، ظهر البائعون
أعلى كوبري أكتوبر، وأبرزهم: «بائع السميط»، كما ظهروا في شارع الحسين، يتزعمهم «بائع
السوبيا» الذي يحمل «صينية» ممتلئة بأكياس بلاستيكية ينتهي طرف كل منها بـ«شفاط» مُلوَّن،
وغيرها من تقاليع البيع وابتكارات المنتَجات التي تلبِّي حاجة «الزبون» المسجون داخل
سيارته.
إن انتشار الباعة الجائلين في
الشوارع المصرية ليس أمرًا جديدًا؛ بل إنه أصبح كارثة تزعج الجميع، بعد أن تحوَّل -في
أعقاب «يناير 2011» وما تلاها من انفلات- إلى سرطان ينهش حرمةَ الطرقاتِ ويزيد من فوضى
حياتنا التي لا تحتمل المزيدَ، وربما تنجحُ الحكومة الحالية وحكومات ستخلفها في وضع
«روشتة» واقعية لهذا المرض.. وحتى يتحقق هذا، علينا أن نتعامل مع بعضِ إيجابياتِ
هذا المرض؛ فالأمراض ليست كلها شرًّا، ومن خيرها مثل هذه النوعية التي أشرتُ إليها
من باعة الزحام في منتصف الطريق.
وقد لاحظتُ من رصدي السريع لهؤلاء
الباعة أن معظمهم هاربٌ من زحام البيع في المناطق التقليدية والتجمعات التجارية، بحثًا
عن فرصة مختلفة، كما أن بعضهم لجأ إلى هذا الحلِّ هروبًا من بطالة تتزايد بفعل سنوات
الانفعال الثوري، التي أثمرت خروجَ قطاعات مهمة من معادلة الاقتصاد المصرية، وأشهرها
قطاع السياحة، الذي ألقى بمئات الآلاف من العاطلين إلى الشارع بعد توقفه شبه الكامل.
قد يزعجك هؤلاء الباعة، وقد تتعاطف
معهم.. في الأحوال كلها، أرجو ألا تفكر في مشكلتهم من وجهةِ نظرِكَ فقط.. اسرح بخيالِكَ
وفكِّر في عدد الأفراد الذين يعولهم كل منهم، وكيف أن مكسبه البسيط من تجارته المتواضعة
يحمي المجتمع من أن يتحوَّل هذا البائع الشريف، أو أيٌّ ممن يعولهم، إلى مجرم أو إرهابي
يعترض طريقك أو يخطف طفلك، أو ربما يزرع «بدائية الصنع» تحت سيارتك فتخسرها وتفقد قبلها
حياتك.
إن هؤلاء البسطاء أفضل من
آخرين تتكدس بهم الشوارع.. ما إن تتوقف بسيارتك في أيِّ مكان حتى يطاردوك بتسولهم الظاهر
وطلبهم «اللزج» للمال، أو بتسولهم الخفي من خلال احتكارهم لمهنة «الركين» المستحدَثة
منذ سنوات.. إن هؤلاء «الأراذل» هم من يستحقون السخط واللعنة، أما الشرفاء الباحثون
عن «اللقمة» الحلال بـ«عرق جبينهم» فهؤلاء يستحقون الاحترام.
شعر بائع «الترمس» بتركيزي معه
ومتابعتي لحركاته، فنظر إليَّ مبتسمًا وناولني كوبًا من الترمس، قائلاً: «ما تكسفش
إيدي يا باشا». نظرت إليه مترددًا وشكرته، لكن إصراره الذي دعمه بـ«كبشة» ترمس
-إضافية- امتلأت بها يدي، حسم القرار، وعندما هممتُ أن أدفعَ له ثمنَ كوب الترمس، كان
قد عاد لمكانه رافضًا، في الوقت ذاته تحركت السيارات من أمامي وأنفتح الطريق وارتفع
صوت «الكلاكسات» المزعج يطالبني بالحركة الفورية، فناولته مسرعًا ما قدَّرتُهُ سعرًا
للترمس، فتلقَّفه بسعادةٍ ورضا لمحتُهما في عينيه وأنا أراقب ردَّ فعله في مرآة السيارة
الجانبية قبل أن أصطدم بالرصيف وأرتد بعجلة القيادة عكسيًّا فتصطدم سيارتي بسيارة «ميكروباص»
مسرعة كانت تمر بجانبي..
الحمد لله.. قدَّر ولطف..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق