السبت، 6 ديسمبر 2014

براءة «الديب».. وبائعة «المناديل»



وقفت بائعة المناديل العجوز «المتصابية» في إشارة مرور «روكسي» بحي مصر الجديدة القاهري، تحاول إقناعي بأن أشتري منها عند توقفي في طابور الانتظار «الممل» عند هذا التقاطع المروري الشهير.. لم تجد البائعة أملا في أن أشتري منها، لكنها أصرت على الحديث وأنا أتابعها «نصف شارد».. بدأت قائلة (بصوت جهوري أسمع الشارع كله): «بس سيبك أنت يا بيه» (تقصدني طبعا فقد كنت في قمة أناقتي)، وأكملت: «إحنا أكلناهم على قفاهم مرتين».. هما مين «يا ست؟»، قلتها في «سرِّي»، وقبل أن أنطقها كانت الإجابة تتدفق منها بالصوت الجهوري نفسه، وقد صاحبته هذه المرة إشارات معبرة من يدها: «إخوان مرسي الله يلعنهم.. »، ثم أكملت: «الأولانية لما جبنا السيسي، والتانية بقى لما خرّجنا مبارك براءة». وبدأت السيدة تتراقص فرحة بحصول مبارك والعادلي على البراءة، وقد استطردت لتحكي فضائل وزير الداخلية الأسبق والأشهر في تاريخ مصر المعاصر السيد حبيب العادلي.
كنت في اللحظة التي اقتحمتني فيها «بائعة المناديل»، أستمتع بدخان سجائري على طريقة المحامي الشهير فريد الديب، الذي حصل قبل أيام على البراءة التاريخية للرئيس المصري الأسبق حسني مبارك.. و«براءة الديب» غير كل البراءات، فهي ليست براءة قضائية بريئة، بل هي «براءة اختراع» جديدة لـ«الحقيقة».
لقد كتب القاضي الجليل المستشار الرشيدي صباح يوم السبت 29 نوفمبر الورقة الأهم في ملف المحاكمة التاريخية التي لقبت بـ«محاكمة القرن»، والتي اتهمت عصر مبارك بالفساد، لكن عشاق «براءة الديب» لم يقرأوا الورقة ولم يتدارسوها، اكتفوا فقط بالعنوان دون الدخول في التفاصيل، ربما لظنهم أن «الشيطان يكمن في التفاصيل»، فخشوا على أنفسهم من الالتباس، وإرهاق الذهن في أمور إن وضحت لهم ربما تسيئهم، ونسي هؤلاء أن الحق أبدا لا يموت.
لا يخفى على عاقل في مصر، أن هناك حالة مجنونة من تزييف الوعي وتجريفه تجري على قدم وساق، يسهم الإعلام فيها بشكل أساسي، ومن أبرز منتجاتها هذه السيدة.. «بائعة المناديل»، وغيرها من بسطاء هذا الوطن المغلوب على أمره، الذي رأى بأم عينيه زهرة شبابه يخرجون ثائرين في يناير 2011 رافضين حكما «فاسدا» استمر قرابة الثلاثين عاما، ورأوا كيف اصطادت رصاصات الغدر بعض هؤلاء الشباب. وكان الأحرى بأصحاب الفرح أن يخجلوا من أنفسهم، لأن لهم إخوة «حزانى» ويعتصر الألم قلوبهم على فقدانهم أبناءهم، وتجدد حزنهم بعد براءة من كانوا يظنون أنهم قتلة فلذات أكبادهم. هذا ما تفعله أي أسرة مصرية وعربية عندما تجهز لإقامة فرح ولهم جار أو قريب يعيش في أحزان تخصه.. في الأغلب تخفف الأسرة الفرِحة من مظاهر فرحها، وربما تؤجله حرصا على مشاعر الآخر الحزين.. فما بالنا وأن الفرحين بـ«براءة الديب» أقاموا أفراحهم على براءة إجرائية «جنائية»، وهي براءة لا تفرح، لأن الجريمة «سياسية» بالأساس، وكانت خطيئة كبيرة أن تتم محاكمة مبارك جنائيا، فهو أمر لا يليق بمصر ولا بأي من حكامها أيّا كان تقييمنا لهم ولعصورهم، بما في ذلك محمد مرسي المرشح هو الآخر لبراءة مشابهة على طريقة «الديب»، وهي نبوءة لعله يكون لي فيها السبق، ولندع الأيام تؤكدها.
اخضرت الإشارة أخيرا، وهممت أن أتحرك بسيارتي بعد أن يئست من طول الانتظار، ولمحت «بائعة المناديل» العجوز تتحرك بخفة «المخبرين» بين السيارات، وتردد ما كانت تقوله لي بالصوت الجهوري نفسه، وتختم كلامها قائلة: «والله يا بيه.. العادلي ده كان سكرة.. الله يرحم أيامه»..
ظل صدى صوتها يتردد في وجداني لساعات جلستها خلف عجلة القيادة في سيارتي بين شوارع القاهرة التي عادت لها «هستريا» الازدحام الرهيب، بفعل شائعات التظاهر التي تجددت كنتيجة حتمية لـ «براءة الديب» .
وفوجئت بنفسي أردد يائسا..
ودون أي مقاومة أو ممانعة..
فعلا .. الله .. يرحم أيامه !!

وألقيت بـ « علبة المناديل» كلها من نافذة السيارة ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

التاريخ في حضرة الشامة (1) - 19 يوليو 2014

كنا في أواخر شهر رمضان، جاي لي تليفون من شخص  كنت شايف إنه أذاني جدا، واتسبب لي في اكبر خسارة حصلت لي في حياتي..  وكنت مسخر نفسي بادعي عليه ...