هل يعرف الرئيس
الفرنسي إيمانويل ماكرون الطفل أسامة بطل القصة الإعلامية الرائجة هذا الأسبوع والمعروفة
بـ«طفل البلكونة»؟
هل يعرف أى شىء
عن المجتمع الذي نشأ فيه هذا الطفل الذي أصبح فجأة نجماً، يلهث وراءه إعلام مريض
لا يراعي أي معايير مهنية، فتناوبت عليه فضائيات شاذة، وتبادلت إغتصاب براءته وهتك
طفولته في أحاديث بالية، لتطويه بعدها دوامات الترافيك منسياً ليصعد بعده «ترند»
جديد؟
هل لدى مبعوث
الحضارة الفرنسية وضيف مصر الموقر، أي معلومات
عن مستوى المعيشة الذي تحيا فيه اسرة أسامة، وأي فقر يطحن أيامهم ويدفع والديه
لتركه مع أشقائه الصغار ليلهثوا وراء رغيف خبز غادر قد لا يجدوه إلا وسط القمامة؟
هل عرف ماكرون عن
أمه هند الروبي التي كادت تقتله بدفعه (من شباك إلى بلكونة) لأجل أن يفتح باب الشقة
التي نسي مفتاحها بداخلها، لأنها لا تملك أجرة النجار؟
هل يقدر القديس
الفرنسي صاحب صكوك «حقوق الإنسان» في العالم المتحضر أن يراجع تاريخ بلاده خلال
القرن الماضي، ومدى ما أستنزفته دولته من موارد وثروات الشعوب الأفريقية
المستعمرة، ويحكى لنا كيف شيدت فرنسا وأصدقائها من المستعمرين القدامي، أممهم
المتحضرة وتركوا كل «أسامة» في بلاده الفقيرة ينتظر السقوط من بلكونة الحياة، لأنه
لا يملك أدنى حقوقه الإنسانية؟
هل يستطيع ماكرون
أن يراجع مواقف بلاده في ليبيا (الجارة الشقيقة) التي أستغل الغرب طموحات شعبها في
الحرية، وتحركت شهوة أطماعهم في النفط الليبي، فأشعلوا الفتنة بين الليبين، ورعت فرنسا ودعمت جماعات
متناحرة، لتخلق ليبيا الممزقة التي أصبحت حلبة صراعات مفتوحة، وضاع الشعب الليبي
وانتهكت إنسانيته تحت سمع وبصر ماكرون وسابقيه من قديسيين حكموا الإليزيه، ورحلوا
ودماء الليبيين الأبرياء تلطخ تاريخهم؟
ربما يكون الدور
الفرنسي المشبوه في الملف الليبي، هو مبعث حديث ماكرون عن حقوق الإنسان في مصر،
فالدولة الفرنسية لازالت تحلم بدور البطولة على أرض ليبيا، فهي التي تزعمت التحرك
العسكري في مارس 2011، وكان رئيسها ساركوزي أول من بادر بالإعتراف بالمجلس
الإنتقالي الليبي وكان سلاحه الجوي هو أول الضاربين للشعب الليبي، بدعوى إسقاط
نظام القذافي، وهو أيضا أول الفاعلين الفاشلين في هذا الملف، الذي تحول بسبب الأطماع
الفرنسية والغربية إلى مستنقع، حاول هولاند من بعد ساركوزي أن يخرج منه معاف، لكنه
فشل وتبعه ماكرون الذي يحاول ويحاور ويناور بعيدا عن الهدف.
هذا ما كشفه
المؤتمر الصحفي المشترك بين الرئيسين المصري والفرنسي والذي عقد بقصر الإتحادية في
مستهل زيارة رسمية مرتقبة يقوم بها ماكرون إلى مصر، والذي ألتقط بخبث ما يمثله
تاريخ (28 يناير) في مصر والعالم، وألح في حديثه على مسألة حقوق الإنسان في مصر، وكان
قد استبق وصوله إلى القاهرة قادما من أسوان بتصريح لوكالة رويترز قال فيه: «أعتقد
أن المثقفين والمجتمع المدني في مصر يعتبرون السياسات الحالية أشد صرامة منها في
عهد مبارك»، وقد كان الرئيس السيسي حاسما في حديثه، حيث أكد أن هامش الحريات موجود
في مصر، ولفت إلى أن حرية التعبير والتقاضي متاحة للشعب المصري، وأوضح قائلاً: «إن
التعبير عن الرأي يختلف عن هدم الدولة»، وأضاف: «مصر لن تقوم بالمدونين ولكن
بالعمل والجهد والمثابرة من جانب أبنائها»، وطالب ماكرون بعدم النظر إلى مصر بعيون
الغرب، مؤكدا أن مصر والمنطقة لهما خصوصيتهما.
لكن الرئيس
الفرنسي خرج من المؤتمر الصحفي وغرد عبر حسابه على تويتر قائلاً: «تعرّضت مصر
وفرنسا للإرهاب الإسلامي. وذكّرتُ الرئيس عبد الفتاح السيسي بأن السعي الدؤوب إلى
تحقيق الأمن هو جزء لا يتجزأ من مسألة احترام حقوق الإنسان. فالمجتمع المتماسك هو
الحصن الواقي من الإرهاب الإسلامي»، وهو إلحاح غير مفهوم من شخص غير مناسب.
فهل يمكن أن يقبل
الشعب المصري حديثاً فرنسيا عن الانسان وحقوقه، بعد أن تابعوا في الأسابيع
الماضية، كيف قمعت حكومة ماكرون متظاهري السترات الصفراء، وكيف سقط قتلى وضحايا
جراء هذا القمع، وصل عددهم بحسب الرئيس الفرنسي 11 قتيلاً؟
إن المصريين صناع
حضارة عزيزي ماكرون (حضارة أبهرتك أثارها في الأقصر وأسوان)، ولن تستطيع أن تخدعهم
بحلو الكلام، مثلما حاول نابليون الفرنسي قبل قرنين، وفشل أن يدغدغ مشاعرهم عندما
جاء طامعاً في خيرات الشرق، ومستعمرا المحروسة في حملته الشهيرة عام 1798، ومثلما
حاول من بعده كثيرون، تاجروا بكل المعاني النبيلة كي يدسوا أنفسهم في همومنا
ومشاكلنا، ظاهرهم الرحمة وباطنهم لا يعلمه إلا الله.
*نشر في جريدة «صوت الأزهر» بتاريخ 30 يناير 2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق