الأربعاء، 30 يناير 2019

السيسي وماكرون.. وطفل البكلونة



هل يعرف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الطفل أسامة بطل القصة الإعلامية الرائجة هذا الأسبوع والمعروفة بـ«طفل البلكونة»؟
هل يعرف أى شىء عن المجتمع الذي نشأ فيه هذا الطفل الذي أصبح فجأة نجماً، يلهث وراءه إعلام مريض لا يراعي أي معايير مهنية، فتناوبت عليه فضائيات شاذة، وتبادلت إغتصاب براءته وهتك طفولته في أحاديث بالية، لتطويه بعدها دوامات الترافيك منسياً ليصعد بعده «ترند» جديد؟
هل لدى مبعوث الحضارة الفرنسية وضيف مصر الموقر،  أي معلومات عن مستوى المعيشة الذي تحيا فيه اسرة أسامة، وأي فقر يطحن أيامهم ويدفع والديه لتركه مع أشقائه الصغار ليلهثوا وراء رغيف خبز غادر قد لا يجدوه إلا وسط القمامة؟
هل عرف ماكرون عن أمه هند الروبي التي كادت تقتله بدفعه (من شباك إلى بلكونة) لأجل أن يفتح باب الشقة التي نسي مفتاحها بداخلها، لأنها لا تملك أجرة النجار؟
هل يقدر القديس الفرنسي صاحب صكوك «حقوق الإنسان» في العالم المتحضر أن يراجع تاريخ بلاده خلال القرن الماضي، ومدى ما أستنزفته دولته من موارد وثروات الشعوب الأفريقية المستعمرة، ويحكى لنا كيف شيدت فرنسا وأصدقائها من المستعمرين القدامي، أممهم المتحضرة وتركوا كل «أسامة» في بلاده الفقيرة ينتظر السقوط من بلكونة الحياة، لأنه لا يملك أدنى حقوقه الإنسانية؟
هل يستطيع ماكرون أن يراجع مواقف بلاده في ليبيا (الجارة الشقيقة) التي أستغل الغرب طموحات شعبها في الحرية، وتحركت شهوة أطماعهم في النفط الليبي، فأشعلوا  الفتنة بين الليبين، ورعت فرنسا ودعمت جماعات متناحرة، لتخلق ليبيا الممزقة التي أصبحت حلبة صراعات مفتوحة، وضاع الشعب الليبي وانتهكت إنسانيته تحت سمع وبصر ماكرون وسابقيه من قديسيين حكموا الإليزيه، ورحلوا ودماء الليبيين الأبرياء تلطخ تاريخهم؟  
ربما يكون الدور الفرنسي المشبوه في الملف الليبي، هو مبعث حديث ماكرون عن حقوق الإنسان في مصر، فالدولة الفرنسية لازالت تحلم بدور البطولة على أرض ليبيا، فهي التي تزعمت التحرك العسكري في مارس 2011، وكان رئيسها ساركوزي أول من بادر بالإعتراف بالمجلس الإنتقالي الليبي وكان سلاحه الجوي هو أول الضاربين للشعب الليبي، بدعوى إسقاط نظام القذافي، وهو أيضا أول الفاعلين الفاشلين في هذا الملف، الذي تحول بسبب الأطماع الفرنسية والغربية إلى مستنقع، حاول هولاند من بعد ساركوزي أن يخرج منه معاف، لكنه فشل وتبعه ماكرون الذي يحاول ويحاور ويناور بعيدا عن الهدف.
هذا ما كشفه المؤتمر الصحفي المشترك بين الرئيسين المصري والفرنسي والذي عقد بقصر الإتحادية في مستهل زيارة رسمية مرتقبة يقوم بها ماكرون إلى مصر، والذي ألتقط بخبث ما يمثله تاريخ (28 يناير) في مصر والعالم، وألح في حديثه على مسألة حقوق الإنسان في مصر، وكان قد استبق وصوله إلى القاهرة قادما من أسوان بتصريح لوكالة رويترز قال فيه: «أعتقد أن المثقفين والمجتمع المدني في مصر يعتبرون السياسات الحالية أشد صرامة منها في عهد مبارك»، وقد كان الرئيس السيسي حاسما في حديثه، حيث أكد أن هامش الحريات موجود في مصر، ولفت إلى أن حرية التعبير والتقاضي متاحة للشعب المصري، وأوضح قائلاً: «إن التعبير عن الرأي يختلف عن هدم الدولة»، وأضاف: «مصر لن تقوم بالمدونين ولكن بالعمل والجهد والمثابرة من جانب أبنائها»، وطالب ماكرون بعدم النظر إلى مصر بعيون الغرب، مؤكدا أن مصر والمنطقة لهما خصوصيتهما.
لكن الرئيس الفرنسي خرج من المؤتمر الصحفي وغرد عبر حسابه على تويتر قائلاً: «تعرّضت مصر وفرنسا للإرهاب الإسلامي. وذكّرتُ الرئيس عبد الفتاح السيسي بأن السعي الدؤوب إلى تحقيق الأمن هو جزء لا يتجزأ من مسألة احترام حقوق الإنسان. فالمجتمع المتماسك هو الحصن الواقي من الإرهاب الإسلامي»، وهو إلحاح غير مفهوم من شخص غير مناسب.
فهل يمكن أن يقبل الشعب المصري حديثاً فرنسيا عن الانسان وحقوقه، بعد أن تابعوا في الأسابيع الماضية، كيف قمعت حكومة ماكرون متظاهري السترات الصفراء، وكيف سقط قتلى وضحايا جراء هذا القمع، وصل عددهم بحسب الرئيس الفرنسي 11 قتيلاً؟
إن المصريين صناع حضارة عزيزي ماكرون (حضارة أبهرتك أثارها في الأقصر وأسوان)، ولن تستطيع أن تخدعهم بحلو الكلام، مثلما حاول نابليون الفرنسي قبل قرنين، وفشل أن يدغدغ مشاعرهم عندما جاء طامعاً في خيرات الشرق، ومستعمرا المحروسة في حملته الشهيرة عام 1798، ومثلما حاول من بعده كثيرون، تاجروا بكل المعاني النبيلة كي يدسوا أنفسهم في همومنا ومشاكلنا، ظاهرهم الرحمة وباطنهم لا يعلمه إلا الله.


 *نشر في جريدة «صوت الأزهر» بتاريخ 30 يناير 2019


الخميس، 24 يناير 2019

قل: حركة شباب.. ولا تقل: ثورة




إذا كانت الحركة المباركة (حركة الضباط الأحرار) في 23 يوليو 1952، قد ألتحمت مع إرادة الجماهير وتطورت مع رؤية الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ورفاقه إلى ما سمي بـ «ثورة يوليو» التي أسست لشرعية الدولة المصرية الوطنية الحديثة الممتدة حتى اليوم، فإن ثورة 25 يناير 2011 التي احتشد خلفها الشعب المصري وساند مشروعها للتغيير واحتفى بها المجتمع الدولي، تقزمت بسبب ما فعلته جماعة الإخوان المحظورة بها، فبات أدق أن نسمها وهي على أعتاب عامها التاسع بـ«حركة شباب»، تأسيساً على فشل مشروعها الثوري، الذي أخفق عندما أختطفت الجماعة المارقة الثورة في أحضانها، ثم تعثرت أقدامها في الثوابت المصرية، فأنكفات على وجهها وأضاعت معها جهد وحلم ملايين المصريين بالتغيير الحقيقي.. بالعيش والحرية والعدالة الإجتماعية.
ولو كان حصاد يناير قد توقف عند هذا المشهد، لحدثت الكارثة وتحقق سيناريو الفوضى الذي تمنته الجماعة يوم هب عليها الشعب واقتلعها من السلطة في 30 يونيو 2013، فأحتشدت ورهط من أنصار مشروعها الفاشي الذي غلفته بالدين وتبنته وتزعمته وروجت له أكثر من 90 عام، لقد دعت يومها وطالب قياداتها بسقوط الدولة الوطنية وتشبثوا حتى الرمق الأخير بالسلطة، لكن قطار القوى الوطنية مدعوما بالجيش والشرطة، دهس طموحات الجماعة وألقى بها إلى مزبلة التاريخ.
وكي لا نظلم يناير وشبابها، فلقد أشعلوا شمعة في فضاء الوطن المعتم، أرشدتنا إلى طريق التغيير، وزرعت بذور الحلم في مستقبل أفضل لمصر، وألتقط الحلم عقل وقلب المواطن المصري عبد الفتاح السيسي، وألهمته «حركة الشباب» وفجرت بداخله مكامن الأمل في نهضة حقيقية، ورسمت في أوراقه «خارطة طريق» شعارها «مصر تستطيع.. وشعبها قادر»، دفعته من منطلق المسئولية الوطنية أن يمسك عجلة القيادة ويتحرك بالسفينة قبل أن تغرق، يقودها ومعه مخلصين من رجال ونساء لم يتلاعب الهوى الدولي في مصريتهم، ولم تجرفهم الرياح الأجنبية العاتية (المدفوعة بمؤامرات يقف وراءها خوارج هذا الزمان) بعيدا عن شاطىء الوطن، فلبوا مع السيسي نداء «تحيا مصر».
ومع قدوم يناير من كل عام، تطل علينا وجوهاً قبيحة تشوه الحلم المصري، والمشروع المصري، والأمل المصري الذي ولد في 25 يناير 2011، لست من حواريي ما سمي وقتها بـ «ثورة يناير»، فلقد تردد عقلي في قبولها لإدراكي كم الكوارث التي تعقب الثورات في العالم كله، لكني تعاملت معها بمهنية أثناء عملي كمراسل ومدير مكتب جريدة «الشرق الأوسط» اللندنية، وقدمت وقتها ومعي زملاء أعزاء أفضل التغطيات المهنية الاحترافية للحدث الذي فاجىء العالم، ولا أخفي أني خسرت بسبب «حركة يناير» في كافة مناحي حياتي، وأهدرت لأجلها فرصاً مهمة أثرت في مستقبلي، لكني أبدا لم ألعنها أو أعاديها، وأكتشفت مع مرور السنوات ملامح عبقريتها، وأراها رغم قسوة ما أحدثته في الجسد المصري المهترىء، إلا أنها أعادت إليه الروح فأسترد بعض عافيته، وعاد من جديد إلى الوجود.
بعدها ربما نتفق أو نختلف مع ما حدث في 30 يونيو 2013، لكني أراها من زاوية التاريخ السياسي (وبعيدا عن فكر الإخوان الـتأمري)، حدث راشد أسترد به المجتمع المصري دولته الوطنية وأعادها إلى طريقها التقليدي، وفق قناعته بأن الثورة فعل لا يناسب أو يتناسب مع الحالة المصرية الراهنة، وهذا ما أتفق عليه كثير من الوطنيين (الحكماء) الذين ناشدوا ثوار يناير في 2011 في أوج ثورتهم، وتمنوا منهم أن يقبلوا حلولا أقل راديكالية وأن يهبطوا بسقف طموحاتهم ويرشدوا مطالبهم، حتى لا يضيع الوطن.
لقد استغل الإخوان هذا الطموح الجارف في دفع الأحداث إلى الهاوية، فطاشت الثورة العظيمة وتقزمت وتقلص طموحها تدريجيا، وتشرذم عشاقها الحقيقيون وأصاب الإكتئاب قلوب الحالمين بها ومعها، حتى تدخلت إرادة الله وأنقذت الوطن، ربما لن يدرك هؤلاء الحالمون المكتئبون حزنا على حلمهم الضائع، قيمة ما حدث بفضل الله وجيش مصر القوي إلا بعد سنوات بعيدة، وقتها سيترحموا على ابائهم الذين هجروا "الكنبة" في 30 يونيو، وفوضوا عبد الفتاح السيسي في يوليو 2013، ولازالوا رغم قسوة جراحته الإقتصادية والسياسية يجددوا له التفويض، لأنه أملهم الأخير بعد أن أسقطت (يناير ويونية) الأقنعة عن كل المزايدين بالوطن ومحبته.
لقد وثق المصريون في السيسي أولا لخلفيته العسكرية التي ضمنت لهم وطنيته في لحظة فارقة، ثم بعد أن اختبروه خلال الأعوام الخمسة الماضية، تيقنوا من همته وجديته وحماسه وإخلاصه، فتصالحوا مع يناير وحركتها وأدركوا أنها هي التي حركت مياه راكدة آسنة، ودفعت برئيسهم الحالي ليتقدم الصفوف.. ويقود مصر في رحلة العودة إلي مصاف الدول الفاعلة في العالم.
شكرا يناير.. وشكرا شباب مصر الذي أنتفض في 25 يناير.. وقدم للعالم في 18 يوم .. ملحمة وطنية خالدة.. وكل عام ومصر بشبابها في خير.




 *نشر في جريدة «صوت الأزهر» بتاريخ 23 يناير 2019

الأربعاء، 16 يناير 2019

هل إبراهيم حمدي.. إرهابي؟؟



تابعت احدى حلقات سلسلة وثائقية بعنوان «نهايات غامضة» تذيعها فضائية الجزيرة (المارقة)، وكان بطل الحلقة المناضل الفلسطيني الراحل وديع حداد، القيادي المؤسس للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وصاحب التاريخ النضالي المشرف، وصاحب شعار «وراء العدو في كل مكان»، والذي حققه فعلاً من خلال عمليات خطف الطائرات الشهيرة في مطلع سبعينات القرن الماضي قبل ان تنتهي حياته عام 1978 في ظروف غامضة وتتفرق اتهامات قتله حائرة بين ثلاثة دول هي العراق والجزائر أخر بلدين عاش على أرضهما، ثم ألمانيا حيث مات في إحدي مستشفياتها قبل أن تستقر الجريمة في النهاية عند اسرائيل التي اعترفت قبل سنوات باغتياله.
تابعت قصة البطل الفلسطيني وانا استرجع في أسى التراث المنسي للقضية الفلسطينية، وبينما كنت غارقاً في تأملاتي باغتني نجلي العزيز، الذي تسلل هاربا من دروسه ساخراً: «ده ارهابي.. بيخطف طيارات ويرعب الناس.. زي صاحبك إبراهيم يا بابا؟؟»، فنهرته ليعود الي مذاكرته متحججا بها كي امنح نفسي وقتا للتفكير، قبل ان ادخل في مبارزة فكرية يهزمني فيها صغيري كما فعلها من قبل عندما اضطر مغصوبا ان يشاهد معي فيلم «في بيتنا رجل» المأخوذ عن قصة حقيقية أبدعها في رواية، أستاذنا إحسان عبد القدوس، وقدمت  سينمائياً في فيلم من أشهر كلاسيكيات السينما المصزية، جسد فيه دور «إبراهيم حمدي» بطل الرواية والفيلم، النجم المصري العالمي عمر الشريف، وأخرجه هنري بركات.
يومها سألني أبني سؤالاً صعباً ومزلزلاً: «ابراهيم ده ارهابي.. صح ولا لأ يا بابا، ده قتل وخوف الناس في الشوارع.. أنتوا ازاي شايفينه بطل؟»؟؟؟، ساد بيننا صمت طويل، قبل أن أعلن مجبراً انه بالفعل ارهابي، وأن ارتكابه لجريمة الاغتيال السياسي بهدف مقاومة الاستعمار لا يمنحه اي شرف ولا يحقق له اي بطولة. حاولت قبل هذا الإعتراف الخطير، تبرير فكرة المقاومة بالعنف والدم من منطلق «فقه الزمان» الذي يلتمس للأجيال السابقة العذر على أخطائهم التي ارتكبوها في الماضي، لمحدودية رؤيتهم في حينه أو اندفاعهم وراء تيارات فكرية سيطرت على عقولهم، في سياق هوس الموضة التي تهيمن في مرحلة زمنية على جيل ما.
كلامي لم يكن مقنعا للصغير الذي انقطعت صلته بالماضي بصورته النمطية التي ترسخت في جيلنا واجيال سبقته والتي تمنح قداسة خاصة لبعض الشخصيات والحكايات دون إدراك أنهم ربما يكونوا مجرمين، وقد يصل الأمر إلي تأصيل قصصهم في تراثنا الشعبي، فنمنحهم بطولة لا يستحقوها.
هذا ما تؤكده القصة الحقيقية لبطل رواية «في بيتنا رجل»، حسين توفيق الذي شكل عام 1946 مجموعة تضمه مع أبن خالته إبراهيم كامل (أصبح فيما بعد وزير خارجية مصر)، ومحمد أنور السادات (رئيس الجمهورية الأسبق)، وأخرين أتهموا في قضية إغتيال وزير المالية المصري أمين عثمان، وقد أختبأ الهارب حسين توفيق في منزل إحسان عبد القدوس لمدة 10 أيام، قبل أن يفر متخفياً في زي ضابط بوليس إلي سوريا، وذكر إحسان القصة في مقال له بعنوان «بينى وبين حسين توفيق»، فى مجلة «الاثنين والدنيا» عدد يوليو 1948.
وبعد أن فر حسين إلى سوريا بعث بخطاب إلي إحسان يخبره فيه، أنه في طريقه لمحاربة الصهيونية، حيث أنه انضم إلي حركة القوميين العرب، وهي الحركة نفسها التي بدأ منها وديع حداد نضاله الوطني، قبل أن يغادرها ويؤسس مع جورج حبش الجبهة الشعبية.
وإذا كان وديع قد تخصص في خطف الطائرات، فإن توفيق أشتهر وهو طالب ثانوي بحرق سيارات الإنجليز، قبل أن يتخصص في الإغتيال السياسي، وتنتهي رحلته مسجوناً في قضية الإخوان الشهيرة عام 1965 بتهمتي السعي لقلب نظام الحكم ومحاولة إغتيال الرئيس جمال عبد الناصر، الذي قدمت في عهده قصة نضال حسين توفيق في رواية إحسان عبد القدوس ثم على المسرح عام 1959 والسينما عام 1961، قبل أن تقدم تليفزيونيا في التسعينات فخلدته بطلاً أسطوريا في مخيلة أجيال من المصريين.
لا شك اننا امام محنة فكرية معقدة تستدعي مراجعة تاريخنا النضالي وتنقيته من قصص ربما تربك عقول أبنائنا الذين يعيشون عصرأ مختلفاً تحكمه أدبيات وأخلاقيات مغايرة، وهذا قد يستدعي تجديداً للخطاب الثقافي والفكري، يتزامن مع ما يرجوه البعض من تجديد لخطابات مجتمعية آخرى باتت تستحق ذلك.
 *نشر في جريدة «صوت الأزهر» بتاريخ 16 يناير 2019




الأحد، 6 يناير 2019

ألفية الـ«صوت».. وقصتي مع الأزهر




لا شك أنها مسيرة حافلة ورحلة نجاح تستحق الاحتفاء والتقدير، لقد خاضت  الصحيفة الأزهرية اليافعة معارك كثيرة، وقفزت خلال سنوات عمرها خطوات مهمة ومؤثرة في فضاء العمل الصحفي منذ أن أسسها الأمام الراحل محمد سيد طنطاوي وصدر عددها الأول في الأول من أكتوبر عام 1999. لتبقى صحيفة «صوت الأزهر» نموذجا إعلاميا فريدا خلال رحلتها الممتدة عبر أعدادها الألف والتي انطلقت من مقرها الدائم في قاعة الإمام محمد عبده بجامعة الأزهر، تحت قيادة المرحوم جمال بدوي رئيس تحريرها الأول، حتى تألقت مع رئيس تحريرها الحالي الصحفي القدير أحمد الصاوي، الذي انتقل بها إلي مصاف الصحف المؤثرة والفاعلة.
شاء قدري أن تأخذ علاقتي مع الصحيفة منحى خاص، منذ أن وطأت قدامي مقرها المهيب عام 2000  لزيارة صديقي المحترم عبد الخالق صبحي سكرتير تحرير الجريدة الحديثة (وقتها)، ومدير تحرير الأهرام المسائي حالياً، والذي طرح علي فكرة العمل في «صوت الأزهر» فقابلت مدير تحرير الجريدة، وعملت لفترة قصيرة ثم سافرت بعدها، وتعدد الأسفار وتنوعت الوظائف والأعمال في العديد من الصحف والمجلات المحلية والعربية، حتى حكم الإخوان مصر في عام 2012، بعدها بشهور نقل إلي الزميل الخلوق وليد عبد الرحمن رغبة رئيس تحرير الصحيفة، في أن أكتب مقالا أسبوعيا فقبلت مرحبا، وكنت وقتها مدير مكتب جريدة «الشرق الأوسط» بالقاهرة، ورغم كثرة المشاغل في ذاك الزمان الثوري، إلا أني كنت حريصا على زاويتي الأسبوعية في «صوت الأزهر»، والتي أخترت لها عنوانا موحيا وهو «رواق التجديد».
لكنني توقفت عن الكتابة مضطراً بعد تفشي الفجر الإخواني، وانفضاح الهوس والجنون بالسلطة الذي كشفه الإعلان الدستوري الشهير في ديسمبر 2012، وقتها أدركت أن حساسية علاقة الأزهر بالجماعة واضطرابها المستمر، بسبب مواقف الشيخ الطيب الحاسمة منهم ومن حكمهم ومن محاولاتهم المستمرة للعبث والتدخل في شئون المؤسسة العريقة، لا تحتمل مشاغباتي في مقالاتي بالصحيفة، فانسحبت بهدوء، سعيدا بما كتبته برغم قلته، والذي كان فاتحة علاقة مختلفة وممتدة مع الصحيفة الأسبوعية الأقرب إلى قلبي.
ثم جاء العام 2017، وحدثني الزميل الفاضل سالم الحافي رئيس تحرير «صوت الأزهر»، عن رغبة الأزهر في تطوير الصحيفة وعن خطته لذلك والتي رأي أن مقالا أسبوعيا بقلمي «المشاغب» ربما يكون  أحد أشكال هذا التطوير، وفي الأول من فبراير 2017 أنطلق قطار التطوير صحفيا وفنيا، فخرجت الصحيفة في صورتها الجديدة، وبعد أسابيع قليلة أنضم رئيس التحرير الحالي لقيادة العمل، وأشهد له ببراعة مهنية فائقة جعلت الصحيفة محل اهتمام جميع الدوائر السياسية والإعلامية، وأذكر له اختياراته الرائعة لأغلفة الصحيفة التي استوقفت وسائل إعلام غربية ودعمت عندهم ملامح التطور والتجديد الأزهري التي يوليها الأزهر وشيخه أهمية قصوى.
في هذا المناخ المبدع الذي وفره أحمد الصاوي، ومن خلفه المؤسسة العريقة وقياداتها، وبصحبته فريق عمل مخلص يتقدمه الزميل وليد عبد الرحمن والمخرجة الفنية عالية عبد الرءوف صاحبة الماكيت الرئيسي للجريدة، والمخرجتين المبدعتين شيماء النمر وخلود الليثي، وجنود مجهولون في أقسام التدقيق والمراجعة والإنتاج والمطابع والتوزيع والإدارة والحسابات، تدفقت مقالاتي خلال ما يقرب من عامين واقتربت من حاجز المائة مقال، تمتعت بحرية لم تصادفني في أي وسيلة إعلام مصرية، وهو أمر لو تعلمون عظيم في هذه المرحلة الإعلامية المرتبكة التي نعيشها، لهذا لا أملك إلا الشكر والتقدير لصحيفتي الشابة التي وصلت إلى عامها العشرين، وإلى كل أبنائها المخلصين، وأتمنى لها ولهم المزيد من النجاح.





الأربعاء، 2 يناير 2019

الجنادرية 33.. والسعودية الجديدة



رغم إزدحام ساحات الجنادرية الشاسعة، بكل ألوان التراث السعودي، إلا أن العيون كانت تحلق في كل الأرجاء منبهرة بما وصلت إليه المملكة من حاضر مشرق، أسشتعرنا أوجهه منذ أن وطأت أقدامنا العاصمة الرياض لحضور المهرجان الوطني للتراث والثقافة، الذي أنطلقت فعالياته يوم الخميس 20 ديسمبر 2018 بحضور الملك وكبار رجال المملكة وضيوفها من كل بلاد العالم، وشرفت أن أكون بينهم وبصحبة عدد من أعضاء الوفد المصري، ضم كلاً من: د. محمد عثمان الخشت، د. محمود علم الدين، د. هيثم الحاج علي، د. عبد المنعم سعيد، د. هشام عطية، ومحمد سلماوي، د. علاء عبد الهادي.
وعقب مشاهدتنا لأوبريت الافتتاح «تدلَّل يا وطن»، الذي سبقَتْه جولة بين أجنحة «الجنادرية» ختمناها بسباق الهجن، ثم ما تلاه لأيامٍ من ندواتٍ ثقافية أُعِدَّت ببراعة لتجمَعَ أهمَّ أوراق العمل في أبرز القضايا الفكرية التي تشغل العقل السعودي والعربي والإسلامي، قبل أن تختطِفَنا شوارعُ الرياض وأحياؤها في جولاتٍ سياحية وفكرية. تأكَّدْتُ بعدها أن السعودية قيادةً وشعباً، معاً على طريق الانفتاح (غير المسبوق)، وأن القيادة والشعب امتلكوا قدرة فائقة على استيعاب وإدارة هذا الانفتاح، وأن سنوات الصبر لم تمرَّ هباء، بل كانت إستعداداً لهذه اللحظة الحتمية، التي تمثِّل الثقافة ركيزةً أساسية لها، لهذا اختارت حكومة المملكة أن تكون لها وزارة مستقلة بعد أن كانت جزءاً من وزارة الإعلام، ويبدو أن نهج «تدليل» الشعب هو هدف وفلسفة لدى القيادة السعودية، لهذا وُجِد للترفيه هيئة مستقلة، تمَّ تغيير قياداتها قبل أيامٍ ضمنَ حزمة أوامر ملكية جدَّدَت دماء مجلس الوزراء السعودي وبعض الهيئات الحكومية، في إطار «حزم وعزم» دائمين تنتهجهما حكومة خادم الحرمين وولي عهده محمد بن سلمان، منذ أن اعتلى الملك سلمان سدة الحكم في 23 يناير 2015.
لقد وصلتنا رسالة «الجنادرية 33»، التي بلورها مهرجانها، وهي الرسالة التي أكدتها فاعلياتها الناجعة، والتي اشتملت في مجملها على أهداف هذا المهرجان (الدوري) الذي انطلقت أول دوراته عام 1985، والتي يلخصها «مزج التاريخ العريق مع الحاضر المزهر»، فالجنادرية تهدف إلى التأكيد على الهوية العربية الإسلامية للمملكة وتأصيل الموروث الوطني السعودي ومحاولة الإبقاء والمحافظة عليه.
وكانت أهم الندوات التي حضرتها ومثلت جزءاً رئيسياً من البرنامج الثقافي للمهرجان، ندوة «الشخصيات المكرمة» هذا العام، وهم: د. علي الدفاع، والأستاذ عبد الفتاح أبو مدين، ود. سمر الحمود، وندوة «المرأة في رؤية المملكة 2030»، وندوة «القدس مفتاح السلام للصراع العربي - الإسرائيلي»، وندوة «تجديد الخطاب الديني»، وندوة «الأمن السيبراني»، وندوة «الدبلوماسية السعودية والاستقرار الإقليمي والعربي والدولي»، وندوة «الهوية الوطنية في زمن التجاذب والتحولات الفكرية»، وجدير أن أتوقف أمام موضوعين منهما، وهما المرأة والدبلوماسية السعودية، فالمرأة هي كلمة السر في التغيير الحاصل في المملكة، فبعد أن مُنِحت حقها في القيادة مع استصدار القوانين التي تكفل لها الحماية وحرية الحركة داخل المجتمع، استعادت السعودية نِصْفَ طاقتها المعطلة، ورفعت عن كاهل اقتصادها عبئاً ثقيلاً، فانطلق المجتمع السعودي إلى المنافسة الحضارية، لقد شعرت بالسعادة أثناء متابعتي في ندوة المرأة بالمهرجان لأربعِ نساء على المنصة، متحدثات لبقات يشرفن وطنهن وعروبتهن وإسلامهن، يناقشن ببراعة ومهارة حضور يتداخل رجاله ونساؤه في جلوسهم، ولا يفصلهم إلا حاجز الاحترام المتبادل.
أما «الدبلوماسية السعودية» فقد قفزت من الندوة وأصبحت الحدث الأبرز، نهاية الأسبوع الماضي، بعد ما جرى من تغيير في حقيبة الخارجية السعودية، بتولي إبراهيم العساف منصب الوزير خلفاً لعادل الجبير الذي تراجع خطوة إلى الخلف، وأصبح وزير دولة للشؤون الخارجية، وظني أن هذا التغيير في واجهة «الدبلوماسية السعودية»، يمنحها دعماً استراتيجياً تحتاج إليه في معارك شرسة، استجدت على المملكة أخيراً، تستهدف إضعاف سرعة تقدمها نحو المستقبل، الذي تتطلع إليه بقوة وأمل بسواعد أبنائها وحماس ولي عهدها الشاب محمد بن سلمان الذي يردد السعوديين كلماته بفخر، ومنها قوله: «دائماً ما تبدأ قصصُ النجاحِ برؤيةٍ، وأنجَحُ الرُّؤى هي تلك التي تُبنى على مكامنِ القوة»، من رَحِمَ الفكرة وُلِدَتْ قصة نجاح القيادة السعودية في بناء «رؤية المملكة في 2030»، التي تبشِّر بميلاد السعودية الجديدة.




* نشر في جريدة "صوت الأزهر" بتاريخ 2 يناير 2019

التاريخ في حضرة الشامة (1) - 19 يوليو 2014

كنا في أواخر شهر رمضان، جاي لي تليفون من شخص  كنت شايف إنه أذاني جدا، واتسبب لي في اكبر خسارة حصلت لي في حياتي..  وكنت مسخر نفسي بادعي عليه ...