الجمعة، 13 أبريل 2018

تنقية الإعلام على طريقة «الحوت الأزرق»


فى يناير ٢٠١١ خرج اللواء عبدالفتاح السيسى (مدير المخابرات العسكرية وقتها) إلى المجال العام مجبرًا، ومعه مجموعة من العسكريين المصريين، فُرِض عليهم الاحتكاك المباشر مع الحياة المدنية فى لحظة معقدة للغاية، واضطرتهم الظروف (السيسى ورفاقه) لإدارة مجتمع عاش مكبوتًا لسنوات طويلة، ظل فيها يغلى بحثًا عن لحظة انفجار، وفى ٢٥ يناير وما تلاها أخرج كل مكنوناته بين إيجابيات اختزلتها نشوة الانفجار الأولى، وسلبيات فادحة كشفتها الأيام والشهور والسنوات التالية.

تأمل السيسى تفاصيل ما يجرى، وبهدوء جراح تعرى أمامه مريض يحتضر بعد حادث رهيب، كان صادقًا عندما شخص حالة مصر (المريض) بأنها شبه دولة، ولو كان استرسل لقال المزيد.. عن أشباه المكونات التى تتشكل منها هذه الدولة، ومن بينها الإعلام.
أتاحت ظروف «اللحظة المعقدة» للرئيس أن يرى ويعلم عن المهنة وأهلها الكثير، وما عرفه كان كاشفًا وفاحشًا، فلقد سقطت أوراق التوت عن المهنة، والمشتغلين بها، أمام الرجل بفعل أبنائها وفى مقدمتهم شيوخها الكبار (منهم الراحل محمد حسنين هيكل)، فقد نشر الإعلاميون كل غسيلهم أمامه وأمام غيره، وأبدعوا فى «الاستربتيز» الإعلامى تملقًا.. وتزلفًا.. وتقربًا، لكل سلطة جديدة خلال السنوات السبع الماضية، وأكدوا له حقيقة الصورة التى بدأت تتشكل أمامه مثل لعبة «البازل» الشهيرة، مكونة صورة سلبية جدًا.. أخشى أن أقول «حقيرة»، لأن الكلمة ثقيلة جدًا على نفسى وإن كانت أقرب للواقع المزرى الذى نعيشه.

فلا يخفى على العاملين فى الإعلام بكل وسائله ما وصلت إليه مهنتنا، الجميع يعلم بشاعة ما جرى، لقد سقط الإعلام المصرى (مثله مثل معظم مناحى الحياة فى بلادنا) بسبب مناخ «الإخصاء الفكرى» الذى صاحب عصر مبارك، حتى وصلنا إلى مرحلة من التدنى المهنى والأخلاقى غير المسبوقة.
وكان قد حدث تحول مريب فى مسار المهنة، بعد أن دخل مئات العاملين فيها إلى نفق «ازدواجية الانتماء»، وهو النفق الذى تم شقه منذ منتصف سبعينيات (القرن الماضى) بظهور ما سمى الصحافة المهاجرة، دعمتها بسخاء دول النفط العربى بداية من العراق وليبيا ثم السعودية وانتهاءً بقطر وأخيرًا الإمارات، وقفز على قمة هذه الوسائل عملاء لأجهزة مخابرات غربية، فتداخلت المصالح وتشعبت الأجندات، حتى وصلنا إلى مرحلة الفوضى الكاملة بصعود فضائيات مثل الجزيرة وأخواتها من ذوات النشأة المفضوحة والمعروفة، وللأسف استقطبت هذه الوسائل خيرة كوادرنا الإعلامية.
وبقى فى إعلامنا المحلى من لم يجد سكة مناسبة للهروب أو حرمه تواضعه المهنى من فرصة مغرية بالعملة الأجنبية، لهذا تحولت الصحف القومية وتليفزيون الدولة (وسائل الإعلام الوطنى) إلى حالة مثيرة للشفقة، فشلت معها كل المحاولات الجادة للإنقاذ، ودعمها للتواجد فى ظل منافسة شرسة، استباحت كل القيم والمعايير، بعد تراجع الإعلام التقليدى، أمام «الميديا الجديدة»، ونهاية عصر «الإعلامى الرصين» أمام طوفان ما سمى «إعلام المواطن».
ووضحت علاقة السيسى مع الإعلام منذ حواره الأول فى طريقه لحكم مصر مع الأستاذ ياسر رزق فى صحيفة «المصرى اليوم» فى أكتوبر عام ٢٠١٣، والذى تم تسريب ما لم ينشر منه فى واقعة لا تزال تمثل لغزًا محيرًا، وحدثًا فريدًا فى تاريخ الدولة المصرية، سبقته إشارة واضحة عن الإعلام فى بيان ٣ يوليو ٢٠١٣، ثم إشارات مستمرة من «الريس» فى كل مناسبة تعكس عدم رضا الرئيس عن الإعلام، ووصل الأمر إلى ظهوره تليفزيونيا دون مذيع فى لقاء قيل وقتها إنه سيكون شهريًا لكنه لم يتكرر.

ومنذ تحذيره الحاد لإبراهيم عيسى بعدم استخدام كلمة «العسكر» فى حواره التليفزيونى الأول عند ترشحه للرئاسة عام ٢٠١٤، وحتى جلوسه أمام المخرجة السينمائية ساندرا نشأت لتحاوره وهو مرشح رئاسى أيضًا ولكن فى عام ٢٠١٨، وما جرى بينهما من وقفات وإجراءات وقرارات مثلت توجه الرئيس، وجسدت رغبته فى ضبط الإعلام، وإعادته إلى رشده المفقود منذ يناير ٢٠١١، فوضعت قواعد صارمة لتنظيم المهنة، أثرت على شكل المشهد الإعلامى، ومنها: 
■ تشكيل المجلس الأعلى للإعلام، بذراعيه: الهيئة الوطنية للصحافة والهيئة الوطنية للإعلام.
■ إعادة هيكلة سوق الفضائيات المصرية، ومحاولة السيطرة الاقتصادية على الإعلام الخاص، لإيقاف الهيمنة النفطية (خاصة القطرية) على الفضاء الإعلامى.
■ بتر الأذرع الإعلامية الأجنبية المعادية، ومداهمة الأوكار الإعلامية المشبوهة وحجب مواقعها الإلكترونية المعروفة بانتمائها الإخوانى.
■ الدفع بجيل جديد من شباب الإعلاميين لصدارة المشهد الإعلامى ودعم وجودهم، والتصدى لمحاولات الأجيال القديمة بإفشالهم.
■ المحاسبة «الغاشمة» لأى مخطئ أو متجاوز فى أى من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمطبوعة والإلكترونية، حتى لو كان من المقربين من دوائر السلطة.
■ التعامل الحازم مع أى تجاوز من الإعلام الأجنبى، وتحفيز دور هيئة الاستعلامات وتنشيطها للحفاظ على هيبة وسمعة مصر فى الخارج.
مثلت هذه التحديات وغيرها محاولة واضحة لتنقية الإعلام وفق توجه الدولة ورغبة الرئيس، وهو ما تشابه إلى حد ما (فى هدفه وتحدياته) مع اللعبة الروسية الشهيرة «الحوت الأزرق»، التى فرضت نفسها على قمة اهتمامات المجتمع المصرى خلال الأيام الماضية، بعد واقعة انتحار نجل برلمانى سابق، والتى قال مخترعها (فيليب بوديكين) إن هدفه هو «تنظيف» المجتمع من خلال دفع الناس إلى الانتحار.
وقد ظهرت هذه اللعبة عام ٢٠١٣، وكانت محدودة الانتشار حتى عام ٢٠١٦ عندما أصاب هوسها الشباب والمراهقين على نطاق واسع، ثم وقعت حالات انتحار تم ربطها باللعبة، مما خلق حالة من الذعر فى روسيا، فاتهم مخترعها الشاب الروسى بوديكين، البالغ من العمر ٢١ عامًا، وأدين بتحريض ١٦ مراهقة على الانتحار.
وتتكون اللعبة من ٥٠ تحديًا (اختبارًا)، وبعد أن يقوم الشخص بالتسجيل لخوض التحدى، يُطلب منه رسم حوت على ذراعه بأداة حادة، ثم تتوالى المهمات التى يتم تكليف المشارك بها حتى يصل إلى التحدى الرئيسى وهو الانتحار. ومن أمثلة هذه التحديات التى تفرضها اللعبة، وحسب أحد الشباب المنتحرين، الذى ترك قصته مكتوبة لأسرته قبل أن يلقى بنفسه من فوق سطح منزله: 
■ قطع أحد أصابع قدمك اليسرى.
■ قطع أحد أصابع يدك اليمنى.
■ الشرب من دمك عن طريق حقنة (تأخذ الدم وتضعه فى زجاجة وتقوم بالشرب).
■ مشاهدة فيلم رعب يوميًا من الساعة الثانية صباحًا حتى الساعة الرابعة صباحًا. 
■ زيارة المقابر لمدة ساعتين بعد منتصف الليل بمفردك.
■ نشر صور سطح البيت الذى ستقوم بالانتحار من فوقه.
وقد أخذت اللعبة اسمها من ظاهرة انتحار الحوت الأزرق طواعية بالارتماء على الشاطئ، وفور الاشتراك فى اللعبة يحصل الـ«أبلكيشن» الخاص بها على كل معلومات المشترك على مواقع التواصل الاجتماعى، ويتم تحليلها لمعرفة جميع أسراره والتعرف على سلوكياته، ومن شروط اللعبة أن «الانسحاب» غير مسموح به، ولو فكر «المشترك» فيه تصله رسالة تهدده بقتل أفراد أسرته، وعليه أن يختار بين أهله وبين الانتحار.
للأسف، هذا ما أتوقعه لكثيرين من أبناء مهنة الإعلام فى مصر خلال الأيام المقبلة.. سيكون مصيرهم مثل الحوت الأزرق.
كفانا الله وإياكم شر الأيام وغدرها.


نشر في جريدة «الدستور» بتاريخ 11 إبريل 2018

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

التاريخ في حضرة الشامة (1) - 19 يوليو 2014

كنا في أواخر شهر رمضان، جاي لي تليفون من شخص  كنت شايف إنه أذاني جدا، واتسبب لي في اكبر خسارة حصلت لي في حياتي..  وكنت مسخر نفسي بادعي عليه ...