من ماتوا في طريق الواحات لن يكونوا آخر الشهداء، قائمة الشرف تنتظر المزيد من الأبطال، الحرب مستمرة والمعركة لن تتوقف والإرهاب وَجَّه كل مقدراته إلى مصر بعد أن قُطِعَت أوصاله في سوريا والعراق، ولا تزال ليبيا عارية من سلطة مركزية تستر أمننا القومي وتحمي حدودنا من تسلُّل السلاح والعتاد والمارقين المأجورين الذين تمولهم «أم الإرهاب» ودوحته، وحمى الله قواتنا الجوية، وقوات حرس الحدود الذين تصدوا لبعض شرور كادت تأتينا عبر حدودنا الغربية المفتوحة مع الجماهيرية السابقة.
في أكتوبر، شهر البطولة والملحمة العظيمة في 1973، تستعر نار الغدر وتُغتال أحلام الفجر، وتثكل الحبيبات.. الأمهات والزوجات.. ويتيَتَّم الأبناء والبنات، وتخفت أصوات الأغنيات الفَرِحَة، ويبقى صوته وحيدًا يصدح ويقاوم آهات البكاء والنحيب؛ تبقي «مدد» هي اللحن الصافي والدواء الشافي، أغنية الموسيقار محمد نوح التي كان يردد بحماسة في مطلعها من كلمات الشاعر إبراهيم رضوان: «إن كان في أرضك مات شهيد.. في ألف غيره بيتولد.. مدد.. مدد».
كان الحزن قد اجتاحنا بقسوةٍ قبل أيام، بعد أن أعلنَتْ وزارة الداخلية في بيان رسمي، السبت الماضي، استشهاد 16 من رجال الشرطة في حادث الواحات، بينهم 11 ضابطًا، بالإضافة لـ13 من المصابين، أثناء مداهمات قامت بها القوات لعناصر إرهابية في إحدى المناطق بالعمق الصحراوي بالكيلو 135 بطريق (أكتوبر - الواحات) بمحافظة الجيزة.
إلا أن الله قَدَّر أن يتبدد سواد سحابة الحزن؛ فالأرض التي ترويها دماء طاهرة تُنبِتُ وتُثمِر خير الأشجار، ومن طَرْح هذه الأرض الطيبة من شاهدتُهُ في لقاءات تلفزيونية يتحدث وعرفت قصَّتَه التي كنت أجهلها؛ إنه الشاب المصري شريف سيد مصطفى، الطالب في السنة الأولى بكلية الصيدلة جامعة الأزهر، الذي توِّج بالمركز الثاني في المسابقة العالمية «تحدي القراءة العربي»، التي أُقيمَت تحت رعاية الشيخ محمد بن راشد نائب رئيس دولة الإمارات رئيس الوزراء حاكم دبي. وقد نجح شريف (ممثل الأزهر) في الوصول للتصفيات النهائية بعد منافسة مع أكثر من 7 ملايين و400 ألف طالب وطالبة من 41 ألف مدرسة شاركت في التحدي على مستوى 25 دولة، ووصل إلى التصفية النهائية التي جرت في دبي بين أعلى 16 متسابقًا خضعوا لاختبارات شفهية وتحريرية أمام لجنة التحكيم، وفق معايير خاصة.
وقد حَظِي شريف بشرف مقابلة الإمام الأكبر هذا الأسبوع، ليهنئه ويبارك له نجاحه وتميزه في تمثيل الأزهر الشريف، فقد كان نموذجًا يفتخر به كلُّ مصري؛ نموذجًا صحيحًا وصادقًا لخريجي مدرسة الأزهر الفكرية والثقافية والتنويرية، التي صقلت عقل الطالب الأزهري شريف وأسهمت مع أسرته العظيمة في خلق شخصية متميزة لشاب مصري ينتظره الكثير في مستقبله، وأدعو الله أن ييسر الطريق أمام الحلم الذي أعلنه وأذاعه على الدنيا كلها، حيث تمنَّى أن يدرس الطب في الخارج، وأن يتخصَّص في المخ والأعصاب ويتعهَّد بثقة الحالم الطموح بأن يحصل على جائزة نوبل بمشيئة الله.
لا أظن أن شريف يبالغ في أحلامه، فالفتى القاهري الذي يقرأ 100 صفحة في 6 دقائق معتمدًا على قراءة العين السريعة، والذي حفظ القرآن الكريم في 3 أشهر بعد أن تعلم التجويد (حفظ القرآن بالقراءات العشر)، كما حفظ صحيحَيْ البخاري والمسلم في 40 يومًا، هو نفسه المحاور البارع الذي ظهر في أكثر من لقاء تليفزيوني واثقًا من نفسه ومن أحلامه، حتى إنه أسعدنا في إنشاده الديني الطيب الذي يعكس تسامحًا وتسلحًا في شخصيته يجعلانه مع أقران له يثمرون في أرض مصر الطيبة ويزهرون في كل ربوعها، محاربين أشداء في مواجهة سرطان الإرهاب في كل مكان وزمان.
شكرًا شريف لقد جفَّفْتَ دموعنا، ورسمت «ابتسامة أمل» فخفت أوجاعنا.
وإن كان في أرضك مات (شهيد).. في ألف (شريف) بيتولد..
* نشر في جريدة (صوت الأزهر) بتاريخ 25 أكتوبر 2017