«لا أكتمُكُم سرًّا
إذا ما قلتُ لكم إن أسعدَ الأوقات عندي هي الجلوسُ الهادئ إلى صفحات كتابٍ،
يُعبِّر عن ذلك بيت شاعر العربية أبي الطَّيِّب المتنبي - رحمه الله -: (أعزُّ
مكانٍ في الدُّنا سرجُ سابحٍ * وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ). إن المعرفةَ هي أعز
ما يُطلب، وهي أوَّلُ واجب على العقلاء، وهي تراث الأنبياء، كما قال نبي الإسلام: {إِنَّ
الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا
العِلْمَ}؛ وهي طريق المؤمن إلى الجنة، وقد أوجبها نبي الإسلام على أتباعه رجاًلا
ونساءً وأمرهم بطلبها حتى لو كان العلم في أقصى الأرض، قال: «مَنْ
سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ
الْجَنَّةِ».
كانت
هذه العبارات الطيبة، التي تحوي عميق المغزى ونفيس القيمة، جزءًا من كلمة فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر عقب
تكريمه من جامعة "بولونيا" الإيطالية، أقدم جامعات أوروبا، ومنحه وسام «السجل
الأكبر»، وهو أرفع وسام تمنحه جهة أكاديمية
لعدد من الزعماء السياسيين والدينيين والمفكرين والعلماء.
وكان
التكريم، ضمن فعاليات زيارة شيخ الأزهر إلى إيطاليا التي كانت المحطة الثالثة
والأخيرة لجولته الخارجية الناجحة، حيث شَارَكَ الإمامُ الطيِّبُ رئيس مجلس حكماء
المسلمين في مؤتمرٍ عالمِيٍّ عن «الأديان..
والثقافة والحوار» الذي نَظَّمَتْه
جمعية «سانت إيجيديو»
في مدينة بولونيا الإيطالية، بحضور نخبة من كبار الشخصيات الدينية والثقافية في
العالم، كما التقى فضيلته بعدد من كبار المسئولين الإيطاليين في العاصمة روما، في
مقدِّمَتِهِمْ الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا.
وقد
اشتملت جولةُ الإمام الأكبر أيضًا على زِيارَةِ كُلٍّ من دولَتَيْ كازاخستان
وأوزبكستان، حيث شارك في عَدَدٍ من الفعاليات، والتقى كبار المسئولينَ في البلدَيْنِ،
كما تَمَّ تقليده الدكتوراه الفخرية من جامعة «أوراسيا
الوطنية» بكازاخستان، كما منح الدكتوراه
الفخرية من أكاديمية أوزبكستان الإسلاميَّة الدَّوْلِيَّة، التي تُعَدُّ أوَّلَ
دكتوراه فخرية في تاريخ الأكاديمية.
وتعكِس الرحلات الخارجية لفضيلة الإمامِ الأكبر، حِرْصَهُ
على نَشْرِ رسالةِ الأزهر وتأكيدِها وتجديدِها في مختَلَفِ دُوَلِ العالم، وتفعيل
دَوْر المؤسسةِ العريقة في إرساءِ وترسيخِ دعائمِ السلام والتعايُشِ المشترك بين
الشُّعُوبِ والمجتمعات المختلفة، وهذا ما أكدته عبارات الإمام الطيب في كلمته
بجامعة بولونيا، حيث قال: «ليس الأزهرُ أيُّها السادة – كما تعلمون – مجرَّدَ معهد
عريق أو جامعة عالميَّة، ربّما كانت هي الأقدمُ في تاريخ الإنسانية من حيث تواصُلُ
عطائِها دونَ تَوَقُّفٍ، منذ إنشائه حتى يوم الناس هذا. بل هو في جوهرِه منهج علمي،
وخطابٌ فكرى متمَيِّز، ورسالة سلام عالمي طريقها الحوار والتفاهم».
كما يبرز أيضًا دورُ الأزهر في مواجهةِ الإرهاب
والتطرُّفِ، الذي يُحاوِلُ استخدامَ الدينِ للتشويش على عقول الناس وتضليل الشباب
من خِلالِ المفاهيمِ المغلوطةِ التي تُنشَرُ باسم الدين، فهو الدَّوْرُ الذي يُعوَّلُ
على الأزهر فيه، خصوصًا مع بشائرِ ما ظَهَرَ في السنوات الأخيرة من خططِ تطويرٍ
وإصلاح وتجديد الخطاب الديني في مصر ومحيطها الإسلامي والعربي، وقد جاءَتْ كلمة
فضيلته التي ألقاها في افتتاح مؤتمر قادة الأديان، بالعاصمة الكازاخية آستانة،
لتعكِسَ عمقَ رؤيته لقضية الإرهاب حيث قال شيخ الأزهر: «إنَ عقيدتي في موضوع «الإرهاب» – وقد أكون مصيبا وقد أكون غير ذلك - هي
أنه ليس صنيعة لا للإسلام ولا للمسيحيَة ولا لليهوديَة كأديانٍ سماويَة، وكرسالاتٍ
إلهيَة بَلَغَها أنبياء الله ورسله: موسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم
أجمعين، ولكنه صنيعة سياسات عالمية جائرة ظالمة ضَلَّت الطَريق وفَقَدَت الإحساس
بآلام الآخرين من الفقَراء والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا
يستطيعون حيلة ولا يهتدونَ سبيلا».
عندما أتابع الاهتمام والاحتفاء الدولي بشيخ الأزهر،
ومدى التقدير الصادق للإمامِ الأكبر في كُلِّ جولاته الخارجية، بما يمثِّلُهُ من
رمزية للإسلام الوسطي المعتدل، أفخر بأن مصر هي بلدُ الأزهر الشريف.
*نشر في جريدة «صوت الأزهر» بتاريخ 17 أكتوبر 2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق