ولنا أن نقتدي بالدولة في تكريمها للفن والفنانين، وخاصة
الراحلين منهم، خاصة وقد بلغت الحفاوة مداها، وأطلق أسم فنان راحل (سمير غانم) على
أحد المحاور والطرق الجديدة، ليصبح في مصاف الشهداء والمناضلين والمفكرين ورجال
السياسة وأهل الحكم، لهذا لم أتردد في قبول دعوة إحدى القنوات المصرية الحكومية
للحديث عن الفنان الراحل سعيد صالح، نجم الكوميديا، والممثل المشاغب الذي لعب
دوراً مؤثرا في تاريخ الفن المصري.
وبدأت على الفور أستعيد قصة «مرسي الزناتي»، اللقب الذي
أشتهر به سعيد صالح لسنوات بعد نجاح مسرحيته الشهيرة «مدرسة المشاغبين»، التي تعد من أهم المسرحيات في تاريخ
المسرح المصري، من حيث امتداد سنوات عرضها واتساع نطاق تأثيرها، والذي وصل مداه
إلى عامنا الحالي، حيث انفردت إحدى المنصات التليفزيونية العربية بحق عرض النسخة
(الملونة) من المسرحية بعد 47 عام من عرضها الأول على المسرح، وبعد عرضها التليفزيوني
(ابيض أسود) لسنوات طويلة قبل أن تعيدها التكنولوجيا الحديثة إلى الحياة بشكل
جديد.
وبعد النجاح الساحق للمشاغبين، انطلقت مسيرة سعيد وأخذت
رحلته طبيعية درامية مؤثرة، من قمة النجومية إلى قاع السجن، ومن ممثل (منفلت) يجسد
(تفاهة) عصر إلى درويش صوفي هائم في رحاب الله ومحبة الفنون، يحرض الجماهير في
مسرحياته على رفض الظلم والقهر والتخلف، مما جعله دائماً في مواجهة مستمرة مع
السلطة، سببت له خسائر كثيرة، أبرزها اختفاء تاريخه المسرحي ومنعه من العرض
التليفزيوني، وتقصير الإعلام في تكريمه وتقديره حياً وميتاً.
وسعيد صالح، حاصل على ليسانس الأداب عام 1960، بدأ حياته في
مسرح التليفزيون، وكانت نقطة انطلاقه الفنية مسرحية «هالو شلبي»، وقدم خلال مسيرته
الفنية أكثر من 500 فيلم سينمائي، لكن كان عشقه أصيلاً للمسرح (أبو الفنون)، وقدم
فيه أهم أعمال الفنية وأكثرها تأثيراً، ويصفه أستاذنا الساخر الكبير محمود السعدني
في فصل بعنوان «العيال» من كتابه «المضحكون» قائلاً: « انه الولد الأهبل المنشرح
الصدر، صاحب الغفلة الحلوة المنبهج لكل ما يحدث في الحياة من أفراح واتراح ومصائب
سوداء متلتلة، ولو تعقل قليلاً وانضبط في حياته وفي سلوكه، ولو ادخر كل جهده وقوته
للعمل لانفجر مثل قنبلة زنة ألف رطل»، ويكمل الأستاذ السعدني: «يأتي سعيد صالح في
المقدمة من شلة العيال، وهو أخفهم دماً ، بل هو أخف دم مضحك على الإطلاق، قادر على
إضحاك الطوب بحركة أو بلفتة أو بإشارة من إصبعه الصغير، وهو ممثل خلق ليحترف هذه
المهنة ويشترك مع على الكسار في ميزة هامة في انه لا يعتمد على التمثيل ولكنه يتحرك
على المسرح كما يتحرك في الشارع ويتكلم بين شلة الأصدقاء المقربين».
ولعل أبلغ من وصف سعيد صالح، هو رفيق دربه الزعيم عادل إمام،
شريكه في رحلة الكفاح والصعود إلى القمة، والذي لقبه بـ «زوربا المصري»، شاهداً
على بساطته وتلقائيته وعشوائيته، وتمرده ورفضه لأي قيود والتي كانت أبرز تجلياتها،
اتهامه الدائم بـ «الخروج عن النص».
و«زوربا» هو بطل قصة الكاتب الشهير نيكوس كازانتزاكيس، والذي
تعتبر روايته «زوربا اليوناني» أيقونة أدبية عالمية، ترجمت إلى العديد من اللغات
وتحولت إلى فيلم سينمائي عظيم من بطولة النجم العالمي أنتوني كوين، واشتهرت موسيقى
الفيلم ورقصة «زوربا» المعروفة، حتى أصبحت من العلامات الخالدة في تاريخ الفن.
وشخصية «زوربا» تعبر عن أحد الرجال البسطاء الطيبين النادرين، الذين
يمتلكون قلوبًا شغوفةً ناصعةً لا تشوبها شائبة، ورغم أنه أميٌّ؛ لا يقرأ أو يكتب،
لكنه يمتلك خبرةً واسعة استمدها من حياته التي عاشها بتجاربها الواسعة، واستطاع أن
يتلقف منها أعظم ما فيها من قيمٍ ويعيش أجمل ما فيها من لحظات. هو مغامرٌ زاهد لا يثنيه
شيئًا عن خوض غمار روعة الحياة.
ومثله كان «سعيد صالح»، خاض معركته مع الحياة، بين انتصار
وانكسار حتى وصل إلى شاطئه الأخير، بعد رحلة مثيرة وصل فيها لأقصى درجات النجاح
والشهرة، وتجاوز فيها حدود الممكن والمسموح، فاصطدم وسقط ولكنه لم ينكسر، ففي ذروة
محنته عندما تم حبسه مطلع التسعينات من القرن الماضي، التقى رجلاً طيباً في السجن،
سأله: «أتحب أن تتحدث مع الله، تشكو إليه حالك وترجوه أن يفك كربك؟»، وعندما
استفسر سعيد عن الطريق، أشار الرجل إلى المصحف، «كتاب الله» الذي بات بعدها لا
يفارق يد سعيد صالح حتى وفاته، فكان له خير رفيق في مشوار الهداية، وقد أكرمه المولى
عز وجل بالحج والعمرة بعد خروجه من السجن، وقيل أنه أدى مناسك الحج 14 مرة على
التوالي.
رحم الله فناننا الراحل، الذي اختزل اسمه، قصته.. فعاش سعيداً
ومات صالحاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق