تمثل «الهجرة» حجر الأساس لمنجز المشروع
الإسلامي الذي تحقق واستمر طوال 1441 عام، تبلورت الفكرة واختمرت واختبرها النبي
في «هجرة الحبشة» قبل أن تصبح «يثرب» هي الملاذ والمستقر، لتصبح «المدينة المنورة»
بسطوع شمس نبينا محمد عليه أفضل صلاة وسلام وصحبه أبي بكر على أرضها بعد رحلة شاقة
نجيا فيها من الهلاك، بفضل الله الذي سترهما وحفظهما في غار حراء بينما رهط من
كفار قريش تصطك سيوفهم على بابه، بعد أن أغشاهم المولى عز وجل فلم يبصروه، ليصل
سالما إلى طيبة الطيبة بأهلها من «الأنصار»، ويشرق بين ربوعها فجر الإسلام، لتصبح الهجرة هي «فعل» البداية والخطوة الأولى لبناء دولة الإسلام التي
شيدها الرسول وأتمها من بعده خلفائه الراشدون.
والهجرة تمثل نموذجاً مثالياً لتأكيد حيوية
الفكر الإسلامي وتفاعلية الثقافة المحمدية (الربانية) القائمة على المنهج الإيجابي،
إن التعاليم الربانية التي نقلها جبريل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام في آيات
من الذكر الحكيم وفي وحي مقدس ترجمت جميعها إلى عقائد وعبادات، تتفق في مجملها على
تحفيز الإنسان المسلم على الحركة ومكافحة السكون والاستسلام. ومثلت فكرة «الهجرة»
قمة التحرك الإيجابي للتحرر من الظلم والعذاب والاضطهاد، بهدف إنقاذ الدعوة
الإسلامية وانطلاقها، فكانت هجرة النبي البداية الحقيقية للمشروع الإسلامي، إنها لحظة
الفعل الثوري للتخلص من عبودية المكان وذل الموطن وأسر الامتلاك، لقد ترك الرسول
وصحبه المسلمون وطنهم (مكة) وأهلهم وبيوتهم وأملاكهم، ليفروا بدعوتهم وينقذوا
نبيهم ويحفظوا إسلامهم، ليحق عليهم وعد الله في كتابه الحكيم: « وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن
بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ
الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ»، سورة النحل.
ولا أدل على أهمية حدث «الهجرة» ومحوريته
أكثر من اختياره لبدء التقويم الإسلامي (الهجري)، الذي يحدد خارطة مواقيت العبادات
الأساسية في الإسلام ويرسم ملامح الحياة بالأيام والشهور والسنوات، وهو التقويم
الذي أنشأ في عهد الخليفة عمر بن الخطاب وجعل من هجرة رسول من مكة إلى المدينة في
12 ربیع الأول (24 سبتمبر عام 622 ميلادياً) مرجعاً لأول سنة فيه، وهو يرتكز في
الأساس على الميقات القمري الذي أمر الله في القرآن بإتباعه وفق ما ذكر تفصيلا في
سورة التوبة.
ومن أبلغ ما وصفت به، ما ذكره الدكتور
مصطفى محمود في إحدى حلقات برنامجه الشهير (العلم والإيمان)، والتي خصصها للحديث
عن الهجرة حيث قال: «الهجرة حياة.. ومغالبة للطبع وكبح لنوازع الكسل والاستسلام..
وهبة روحية مضادة للقصور الذاتي المادي للإنسان.. ثورة على المألوف.. الهجرة
بالنسبة للإسلام نقلة من حال إلي حال.. فقد كان قبل الهجرة «إسلام سلبي»
خلال 13 سنة، وبعد الهجرة تحول إلى الضد فأصبح موقفه إيجابي من الباطل، فإذا حورب
يحارب.. وإذا جوبه بالقوة يصد بقوة أكبر.. وبعد الهجرة بدأ عصر الغزوات ثم
الفتوحات.. فكانت الهجرة هي بداية إرادة التغيير».
وتختصر الهجرة دروسا وعظات كثيرة، علينا
أن نسترجعها في كل مناسبة لعلها تنفع الأجيال الجديدة من الشباب وتدفعهم إلى
التغيير الإيجابي، فالهجرة هي سنة كونية ضربها الله لنا كي تحفزنا لرفض الاستسلام
للظلم أو الهزيمة أو الفشل، وإنه إذا ضاقت بنا السبل يجب أن تهب أرواحنا وتسحبنا
إلى فضاءات جديدة وتجارب مختلفة ربما نحصد ما لا نتوقع، وتتبدل مصائرنا نحو
الأفضل.
كل عام هجري وأنتم بخير.
*نشر في جريدة «صوت الأزهر» بتاريخ 28 أغسطس2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق