السبت، 2 يونيو 2018

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ



يحاصرنا خلال شهر رمضان طوفان (معتاد) من الدراما، في أكبر موسم سنويٍّ لفنون التلفزيون المنَوَّعة من مسلسلات وبرامج وإعلانات، وهو ما اصطُلِح على تسميته بـ«موسم دراما رمضان»، الذي يستحوذ على نصيب الأسد من حصة الإعلانات التلفزيونية السنوية التي تخصصها كبرى الشركات والمؤسسات المحلية والدولية، التي تُعتبر الممول الرئيسي لهذه الصناعة الضخمة والمهمة، التي من المؤسِف أنها أصبحت تتركز فقط في الشهر الكريم، بدعوى أن فُرَص المشاهدة تكون أكبر وأفضل.
هذا المنطق التجاري أفسد علينا الشهر بزِحام الأعمال الْمُلهية للصغار والكبار، التي تحرمهم التركيز المناسب للعبادة، وأيضًا هذا المنطق الحاكم أضرَّ صناعة الدراما التلفزيونية نفسها، هذه الصناعة الاستراتيجية المهمة، التي تُعتَبَر قوة ناعمة مهمة ومؤثرة في دعم الدور المصري في محيطه الإقليمي والعربي.
لستُ مع أصوات تتعالى كل عام وتطالب بمنع الدراما في رمضان، ولكني لستُ مع هذا الكمِّ الكبير من الأعمال التي تخلُقُ حالةَ حصارٍ خانقٍ على المشاهد، كذلك لستُ مع هذا المستوى (المرتبِك) الذي تظهر به معظم الأعمال كلَّ عام رغم ما يبذله صُنَّاعها من جهد رهيب، يجعلهم يواصلون الليل بالنهار في الشهور القليلة السابقة للشهر الكريم، بل إن بعض هذه الأعمال يستمرُّ تصويره في معظم أيام رمضان.
لقد أصبح التعجُّلُ يفرض شروطه وضغوطه على هذه الصناعة ويؤثر بالسلب على شكل ومستوى المحتوى الذي تقدمه هذه الأعمال الفنية المنوط بها أن ترتقي بالجمهور.. تثقف الكبار وتسهم في تنشئة الصغار، مع عدم إغفال دورها الترفيهيِّ الترويحي.
إن مراجعةَ ما قدَّمَتْه الفضائيات المصرية من أعمال درامية في رمضان هذا العام، يكشف لنا ملامح الأزمة التي تزداد عمقًا وتستفحلُ في تأثيرها عامًا بعد آخر، منذ أن أُبعِدَتْ الدولة المصرية خلال السنوات الـ15 الماضية عن ممارسة دورها في توجيه وتنظيم ودعم وإنتاج الدراما المصرية التي تناسب طموحها وتواكب دورها، وتحقِّق أثرها، واكتفَتْ خلال هذه السنوات بالمشاهدة مثلنا، فنتج ما أصبح يحاصرُنا من عبثٍ دراميٍّ، قبل أن تحاول استعادة بعضَ هذا الدور بتوجيهٍ ودعمٍ رئاسيٍّ.
إن حالة «السُّعار» التي أصابت العاملين بالفنِّ (والإعلام) منذ هَبَطَ علينا مصطلح «الترافيك» قبل سنوات، جعل كل صُنَّاع الفن من المبدعين يلهثون بجنون للحصول على أعلى نسبة مشاهدة (أو متابعة أو قراءة أو إعجاب)، لذا هم على استعداد لتقديم كل التنازلات لتحقيق هذا الهدف الذي يضمن لهم الاستمرارية والبقاء في سوق شرسة في منافستها، عديمة الأخلاق في سُبُلِها.
ولهذا طغت أنواع وألوان محددة من الدراما (التجارية)، أغلبها يؤثر بشكل سلبي على المشاهد، وفي المقابل خَرَجَتْ وغابَتْ واختفَتْ ألوانُ الدراما الهادفة التي تحمِل رسائلَ تنويريةً للمتفرِّجِ الذي يعتَبِر الدراما النهرَ الرئيسَ الذي يرتوي منه بالقصص والحكايات التي تمنحه الطاقة الإيجابية والمعرفة الإنسانية.
إن فن الحكي (الدراما) من أقدم الفنون المصرية والعربية، فالحكاية هي الوسيلة الأقدم لنشر الحقيقة وتوثيقها وتوريثها عبر الأجيال، وهو فن رباني باقتدار، ولعل الآية الكريمة من سورة يوسف تُبلغنا بنوع المحتوى المرتجى.. أحسن القصص، حيث يقول تعالى: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أوحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ».
فهل نطمع أن يفَكِّر صناع الدراما المصرية في توفير آلية إنتاجية ثابتة لتقديم «أحسن القصص»، التي يحتاج إليها ويستحقُّها المشاهد المصري والعربي؟
أتمنى أن يتحقَّق هذا في العام المقبل، لا سيَّما مع ما يتردد من وجود نية في إعادة ترتيب السوق الدرامية بين كبار المنتجين، وبالتنسيق مع أجهزة الدولة التي أصبحت تلعب دورًا مؤثرًا في توجيهِ هذه الصناعة المهمَّة.
وكل عام وأنتم بخير.



*نشر بصحيفة «صوت الأزهر» بتاريخ 30 مايو 2018

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

التاريخ في حضرة الشامة (1) - 19 يوليو 2014

كنا في أواخر شهر رمضان، جاي لي تليفون من شخص  كنت شايف إنه أذاني جدا، واتسبب لي في اكبر خسارة حصلت لي في حياتي..  وكنت مسخر نفسي بادعي عليه ...