إن
ما حدث هو بالفعل انتصار معنوي حقيقي للإرادة الفلسطينية على الصلف والغرور الإسرائيلي،
في زمان عَزَّت فيه الانتصارات، وتوالَتْ فيه الانكسارات التي تُلاحِقُ القضية منذ
أَنْ باعَها العرب وتجَرَّعوا في صمتٍ مطبقٍ قرارًا أميركيًّا أحمقَ بنقلِ سفارة «ترامب»
ودولَتِهِ إلى القدس إيذانًا باختطاف المدينةِ المقدَّسة للأبد.
النصر
حقيقة مهما تعدَّدَتْ الأسباب وتبايَنَتْ التحليلات، يكفي أن إسرائيل (نفسها) قد ألقَتْ
باللوم على الضغط الفلسطينيِّ، واعترفت بأنه كان السبب الوحيد في إلغاء المباراة الوِدِّية
التي كان من المقرر أن يلعبَها المنتخب الصهيوني لكرة القدم أمام منتخب الأرجنتين في
إطارِ استعدادِ الأخير للمشاركة في بطولة كأس العالم التي تنطلق فعالياتُها الخميس
14 يونيو في روسيا.
واحتفل
الفلسطينيون بإلغاء المباراة في غزة، بينما أصدر الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم بيانًا
في رام الله بالضفة الغربية يشكر فيه ميسي وزملاءَه على إلغاء المباراة، معتبرًا الإلغاء
«بطاقة حمراء من الجميع في وجه الإسرائيليين لإفهامهم أن لديهِم الحقَّ في لعب كرة
القدم ضِمنَ حدودِهِمْ المعترف بها دوليًّا».
في
المقابلِ أبدعت إسرائيل مصطلحًا مُخادِعًا جديدًا حيث وصفت ما حدث بأنه «إرهاب كروي
فلسطيني»، في محاولة لتشويهِ نضال الشعب الفلسطيني وخداع الرأي العام العالمي، وقد
أجرى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اتصالًا بنظيره الأرجنتيني ماوريسيو ماكري، في محاولةٍ
للإبقاءِ على المباراة، إلا أن الأخيرَ رَدَّ بأنه غيرُ قادرٍ على التدخل.
وكان
قد تظاهر جمع من المحتجين خارج مقر معسكر تدريب المنتخب الأرجنتيني في مدينة برشلونة
الإسبانية حاملين قمصانًا للمنتخب ملطَّخَةً بالدماء، وداعين ميسي لعدم خوض المباراة،
كما دعا جبريل الرجوب رئيس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم لـ«حرق» قميص ميسي وصُوَرِه
في حال مشاركته في المباراة، معتبرًا أن المباراة «تحوَّلَت من لقاء رياضي إلى أداةٍ
سياسيةٍ» بسبب إصرار الحكومة الإسرائيلية على أن تكون المباراة في القدس، وكان مقررًا
لها أن تُلعَب في حيفا.
أما
الطرف الأرجنتيني فقد سعى إلى التأكيد على أن خُطوَتَه كانت رسالة «سلام»، ووفقاً لصحيفة
«فوكس سبورت»، فقد اتَّفَقَ ميسي وماسكيرانو، مع باقي اللاعبين على ضرورة إلغاء المباراة،
وقد صرح جونزالو هيجوايين لاعب المنتخب الأرجنتيني لوسائل الإعلام قائلاً: «كيف لنا
أن نلعب ببال هادئ في الوقت الذي يعاني فيه كثير من الفلسطينيين؟!».
ولكن،
هل سيُشبِعُنا انتصار صغير بعد صومنا الطويل؟
أظنه
«فاتحَ شهية» فقط.
إن
ما قام به ميسي ورفاقه نجوم «التانجو» للشعب الفلسطيني هو «لمسة حانية» قد تُجفِّف
بعض دموع الثكالى من الأمهات اللائي سقط أبناؤُهُنَّ شهداء، فداء الوطن الأسير، وهو
«شدَّة» على كَتِف أبٍ كسَرَه الحزن على إصابة أو اعتقال ابنه في أحداث مايو الماضي،
التي صاحبَتْ النقل المشئوم للسفارة الأميركية، وهو الحَدَث الذي جَدَّد الجراح الفلسطينية،
وأشعل من جديد جذوة المقاومة التي خَبَتْ بفعل شيخوخة النضال الفلسطيني الذي جاوز السبعين
عامًا، وأصبح ينتظر تجديد شبابه.
إن
الانتصارات الصغيرة، تجلب انتصاراتٍ أكبر، وإنجاز استمرار المقاومة والنضال رغم حالة
التغييب الكاملة التي يعيشها مجتمعنا العربي، ونقص الدعم بكل أشكاله عن الشعب الفلسطيني،
هو أمر يستحقُّ أن يفخر به كل الفلسطينيين، هذا الشعب البطل الذي ما زال يساند قضيته،
مضحيًا بكل غالٍ كي يستعيد حقه المسلوب.
انصروا
القدس كما فعلها «ميسي»، ولا تخجلوا من دعمكم لفلسطين، فهي تستحق منا الكثير، وإن عَزَّ
علينا العطاء فكلمة بسيطة.. طيبة.. ربما تغيِّر تاريخاً وتعيد رسم خرائط الجغرافيا
وتستعيد حقاً ضائعاً.
وكل
عام وأنتم بخير.
*نشر بصحيفة «صوت الأزهر» بتاريخ 13 يونيو 2018