استشعرت خلال الأيام الماضية حالة «شاذة» في التعامل
النقدي والإعلامي مع فيلم سينمائي يعرض في سباق «أفلام العيد» الموسمي، والذي بدأ
قبل أسبوع مع أول أيام عيد الفطر المبارك. الفيلم هو «الممر» الذي كتبه وأخرجه
المبدع شريف عرفة، والذي يصنف تحت فئة «الأفلام الحربية» وهو النوع الأقل تواجدا
في تاريخ السينما المصرية الذي تجاوز (6000 فيلم) في أكثر من مائة عام، وترجع قلة الأفلام
العسكرية لاحتياجها إلي ميزانيات ضخمة وإمكانيات تقنية وتكنولوجية مكلفة، وهو ما
يصعب توافره في «بلد فقير».
وتسجل ذاكرة السينما المصرية كثافة في الإنتاج وصلت إلي
6 أفلام روائية (متواضعة فنيا وإنتاجيا) تم عرضهم في منتصف السبعينات من
القرن الماضي (ما بين عامي 1974 و1978)، يمكن وصفهم مجازا بـ «أفلام حربية»،
تناولت بطولات الجيش المصري عقب نكسة يونية وخلال حرب الاستنزاف ثم رصدت معجزة
النصر في أكتوبر 1973، وقائمة الأفلام تتضمن: «الرصاصة لا تزال في
جيبي» و«بدور» و«أغنية على الممر» و«أبناء الصمت» و«حتى أخر العمر» و«العمر لحظة»،
انضم إليهم 4 أفلام أخرى في عهد مبارك: «الطريق إلى إيلات» و«حكايات الغريب»
و«حائط البطولات» و«السادات».
لهذا لا أخفي سعادتي بنجاح «الممر» ومستواه الفني
الفريد، عكس ما قدم من إنتاج هزيل في الماضي فشل في تجسيد حقيقي لقدرات العسكرية
المصرية في الفترة من 1967 إلى 1973، وقد حصل الفيلم على المركز الثاني في سباق
العيد محققا 14 مليون جنيه في أسبوع عرضه الأول.
وظني أن نجاح الفيلم يعد حافزا مثاليا لإنتاج المزيد من الأفلام
العسكرية وتطوير مستواها في المستقبل، فمن حقنا أن نحلم بأن تنافس أفلامنا الحربية
(وغيرها) في مهرجانات دولية وتحصد إحدى الجوائز الرفيعة في «كان» أو «البندقية» أو
«برلين» أو حتى في مهرجان القاهرة السينمائي، لا مبالغة في هذا بعد ما رأيناه من
قدرات فنية مبهرة قدمها رجال «الممر» البواسل بقيادة مخرجه القدير وبدعم سخي ومستنير
من الأجهزة المعنية.
لكن ما يعوق هذا التطور (في السينما وكافة مجالات الفن
والإعلام) ويقف حاجزا أمام الحلم، هو ما استشعرته من وجود اتجاه لفرض القداسة
على فيلم «الممر» وتنزيهه عن كل نقص، وعدم الترحيب بأي نقد موجه له، وإرهاب كل
محاولة نقاش موضوعي حول الفيلم، بإصطناع طوفان من الإطراء الإعلامي المبالغ ،
يجعل أي «ناقد» للفيلم في مرمى النيران (مَلُومًا مَّحْسُورًا).
لا شك أن الفيلم هو الأفضل في قائمة الأفلام العسكرية
المصرية، لكن هذا لن يمنعني من قول: «أن السيناريو سيء»، ولا يرتقي لمستوى
العناصر الفنية الأخرى وفي مقدمتها التمثيل والموسيقى التصويرية والتصوير والإخراج،
كما أن تناول مبررات «نكسة يونية» وفق الرواية الإسرائيلية في بداية الفيلم
(كي يبدو فيلما محايدا) يجعل جمهور المشاهدين وخاصة الأطفال والشباب لا يتعاطفون
مع بلدهم، فالفيلم يشعرك أن مصر هي التي تحرشت بإسرائيل وأشعلت الحرب، ويركز
الفيلم أيضا في دقائقه الأولى على التصعيد المصري، منطلقا من مشهد لاجتماع قيادات إسرائيلية
ترصد وتحلل السيدة أم كلثوم وهي تشدو بأغنيتها الوطنية «راجعين بقوة السلاح» التي
كتب كلماتها صلاح جاهين ولحنها رياض السنباطي وغنتها كوكب الشرق في الأول من يونيو
عام 1967، وكلمات الأغنية تحرض على الحرب ويظهر في التصوير «ملقن» يجلس خلف سيدة
الغناء العربي ربما للمرة الأولى في تاريخها الغنائي وهو ما ينتبه له الإسرائيليين
ويبشرهم بعدم (جاهزية) المصريين.. ويبشرنا بأن الفيلم ينوي إيلامنا قبل أن يسعدنا
ببطولة أبناء جيشنا. ورغم
ذلك يحسب للفيلم أنه نشط ذاكرة المصريين وثبت في وجدانهم الجمعي أن عدوهم الحقيقي
هو.. إسرائيل.
وأخيرا ما هو مبرر «أرجزة» الصحفي في «الممر» وهي
الشخصية التي جسدها الموهوب أحمد رزق ممثلا لمهنة الصحافة العريقة في هذه الملحمة
الوطنية، وما سر اختيار اسم «إحسان» لهذا (الأرجوز)، وهو الأسم الذي عرفنا به واحد
من أبرز أساتذة المهنة وابائها المؤسسين، أستاذنا الراحل إحسان عبد القدوس؟!. أتفهم
حق المخرج في خلق شخوص عمله كما يريد ويتخيل، لكن لا أظن أن حريته مطلقة في عمل
ضخم يخلد صفحة من أنصع صفحات التاريخ المصري الحديث.
نشر في جريدة «صوت الأزهر» بتاريخ 12 يونية 2019