نظرة عابرة على الجزء الأول
من "فيلم" انتخابات (مصر/ 2015)
أتوقع أن يستفز العنوان بعض كارهي صاحب العبارة وقائلها
الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، الذي خطها كمنهج وإستراتيجية حكم. لا أنكر عليهم
رفضهم للرجل ولن أجادلهم في سقطات شابت سنوات حكمه (1954-1970)، لكننا تعلمنا من
سنوات قريبة وبعيدة، ألا نشوه كل الماضي حتى لا نخسر الباقي من الحاضر وكل
المستقبل، تعلمنا أيضا ألا نهدم كل تاريخنا، بحجة أن جزء منه لا يروق لنا، فنحن
شعب صنع حضارة متكاملة عبر كل تاريخه فلا
يمكن تجزئتها أو تقسيمها، لأن رحلة العطاء متصلة منذ فجر الضمير الإنساني حيث شارك
المصريين في صناعة الحياة بجهد لا يمحى ولا ينسى، ومن حقنا كمصريين أن نظل نفخر
بذلك، وأن نستمر في البناء لا في الهدم، كي نستكمل مسيرتنا.
أقول هذا تعليقا على ما أثير من لغط أثناء وبعد المرحلة
الأولى من انتخابات مجلس النواب المصري (أكتوبر 2015)، مخلفة ورائها جدلا مشتعلا
وصخبا سياسيا لا يحتمل، تصاعد حتى وصل إلى حد قذف الشعب المصري بالسلبية، وبأنه لا
يستحق نعمة الديمقراطية، وبالغ بعض الإعلاميين في التشويه بسذاجة تعكس حجم الغباء
الذي أنعم الله به عليهم.
ونعود إلى عبارة عبد الناصر التى ترد على هذا الغباء وتزيل
هذا الالتباس، تتبعوا معي سنواتنا الخمسة الماضية، واستوعبوا عبقرية المصريين، هذا
الشعب العظيم الذي وثق لسنوات طويلة في حسني مبارك، وبالغ في ثقته ليس حبا في شخصه
بل لإدراكه الكامل أن كل البدائل ستصل إلى نفس الطريق، فمنحه الشعب الفرصة تلو
الأخرى ليحقق أحلامهم البسيطة حتى دفعهم إلى حائط اليأس، أصابت آذنيه الشيخوخة مثل
كل نظامه فلم يسمع عن أنين المصريين وصراخهم، وهم يرجونه العيش والحرية والعدالة والكرامة،
لم يستوعب رفضهم للوجود غير الشرعي لنجله وشلته على رأس السلطة وفي كل مفاصلها،
فخرجوا في ثورتهم الأولى في يناير 2011، ودافعوا عنها في كل الاستحقاقات التالية يحركهم
دافع رئيسي ومصيري، هو ألا تنهار أركان دولتهم.
لقد "صوت" المصريين" دائما لاختيار
الاستقرار (خيار الأمان ولقمة العيش والبعد عن الفوضى والدماء والدمار)، خيارهم
الدائم منذ فجر التاريخ وحتى نهايته، فهم من قالوا نعم في مارس 2011 في استفتاء
الدستور المعدل، وهم من اختاروا الإخوان في البرلمان لأنهم كانوا الأكثر جاهزية
للحكم من كل التيارات السياسية المتواجدة، وهم من فضلوا مرسي حتى لا تعود دولة
مبارك متمثلة في شخص الفريق أحمد شفيق، وهم أيضا من أزاحوا الإخوان وثاروا عليهم،
بعد عام واحد فقط أدركوا فيه خيبة الجماعة وممثلها في الاتحادية وعدم استطاعتهم
الحفاظ على الدولة، وثاروا للمرة الثانية في يونيو 2013 بعد أن رفض الرئيس الإخواني
الدعوة لإنتخابات رئاسية مبكرة، وفوضوا جيشهم وقائده في يوليو من نفس العام،
لمحاربة إرهاب تجار الدين بكل أصنافه وأشكاله وتياراته، وهم من وافقوا على كل
دستور طرح عليهم لاستفتاء عام بما في ذلك دستور مرسي، ليس عن سذاجة أو جهل، ولكن
عن عبقرية وقناعة بأن دستورهم الحقيقي قابع في قلوبهم، ومحفور على جدران حضارتهم،
مخلوط بتراب هذا الوطن الذي عشقوه، دستورهم هو الحضن الجامع لدولتهم الحارس
لتاريخهم والباني لمستقبلهم. فقال المصريين (نعم) في ثلاثة استفتاءات متتالية على
نصوص دستورية، اختلفت نصوصها وتباينت صياغتها وتناقض صناعها، لكن المصري لا يصوت
على نص دستوري، بل يمنح وجوده لمن يمنحه الوجود ويجود بنفسه ليحفظ دولته داخل حدود.
وعندما وصلنا إلى محطتنا الأخيرة في خارطة
"السيسي"، تفجرت أيضا عبقرية هذا الشعب، وقال كلمته، وبدلا من محاولة
فهم رسالة المصريين في عزوفهم عن المشاركة، أهال التراب على الشعب من سلطهم الله
علينا من أرباب الإعلام الفاسد، وهددوا وتوعدوا وحاولوا ترغيب المصريين على المشاركة
بكل الطرق والوسائل، لكنهم لم يفلحوا ووقعوا هم في الحفرة التي حفروها لشعبهم،
ودخلوا متاهة لن يكون أولها سقوط صاحبة الصبايا في وحل الخطيئة المهنية، كما لن
يكون أخرها نفاذ صبر الرئيس المصري مما وصفه بالفوضى الاعلامية.
ونعود لمجلس النواب الذي أقتربت نصف مقاعده من الإكتمال
بعد إنتهاء المرحلة الأولى وإعلان نتائجها بنسبة مشاركة تخطت حاجز 25% بصعوبة
بالغة، ووهي نسبة إقبال ضعيفة.
وفي كل الأحوال قالت مصر كلمتها وعبر الشعب عن رأيه،
وعلينا أن نجتهد في فهم هذا الرأي وتفسيره، من منطلق أن المصريين خياراتهم متصلة،
ومسيرتهم منذ سبعة ألاف عام لا تتوقف، وعبقرية شخصيتهم حقيقة لا خيال، وواقع ملموس
يشهد عليه العالم. لهذا أتمنى قبل أن تحللوا أو تفسروا أن تحسنوا الظن بوطنكم
وشعبه، وأوصولوا أسباب كل اختياراته الصادقة والمتصلة، لا تسقطوا مراحل أو أحداث
أو تشوهوا إنجاز أو إنحياز في أي من محطات مصر عبر تاريخها، ولا تستبعدوا حقبة أو
مرحلة لتعارضها مع وجهة خاصة.
من أراد أن يكون مصريا، عليه أن يتقبل كل اختيارات
المصريين، ويتعلم منها، ولا يوجد فئة ضالة وأخرى صالحة، ولا يمتلك أي منا الحقيقة
الكاملة، فكلنا نجتهد في إطار وحيد يحكمنا هو الإيمان بالله والوطن، لا صراع
بينهما ولا خلاف عليهما.
وقد سعدت بحديث الرئيس المصري ورضاه عما فعله المصريين
في هذه الانتخابات ونجاحها على مستوى التنظيم والشفافية، وبعد شكره الشرطة والجيش
على التنظيم، قال: "أنا طالبت من الشعب المصري أن ينزل إلى الانتخابات غير
عابئ بالكلام فليس هناك مقام عال في مصر فالمقام العالي للشعب، ومن نزل للمشاركة
أقول له شكرا، ومن لم ينزل أقول له عليك بالنزول".
ولكني أنزعجت من التعجل في الحكم على سبب "عزوف
المشاركة" وإرجاع الرئيس ذلك إلى "زهق" الشعب من كثرة مشاركته في
الانتخابات، والتي قدرها السيسي بـ 8 أو 9 انتخابات خلال السنوات الخمس الأخيرة، وهذا
لا يرجع لمعرفتي بسبب العزوف، أو نيتي في التطوع بتحليله أو تفسيره مثلما خرج
علينا بعضهم ليفعل ذلك دون حتى أن ينتظر اكتمال الانتخابات بمرحلتها الثانية، لكن الانزعاج
مرجعه أنني كنت أتمنى أن تجتهد الدولة بمؤسساتها البحثية وأجهزتها المعلوماتية، لتعرف
أسباب هذا العزوف بشكل علمي وتحلله وتطرحه للمناقشة المجتمعية الناضجة، ولا تكتفي
بحديث انطباعي يكمله كلام مكرر عن نسب المشاركة الضعيفة في انتخابات تجري بدول
آخرى، لأن هذا لا يليق بدولة تسعى لبناء مستقبلها بصورة صحيحة في إطار ديمقراطي
محترم يليق بها وبتاريخها العريق، فقد أحرجتنا تركيا في نفس اليوم وتخطت نسبة المشاركة
الشعبية في الإنتخابات الـ 90%، رغم أنه لم يمض سوى 5 أشهر على أخر إنتخابات جرت
في بلدهم.
وأخيرا كي لا تتوه الحقيقة بيننا كعادتنا هذه الأيام،
علينا أن نتمسك بثوابتنا وننطلق منها، الشعب صاحب المقام الأعلى (كما قال السيسي)
وهو المعلم والقائد (كما سبقه عبد الناصر)، وعلينا أن نقدر ونحترم مسيرته عبر
العصور والأزمنة والسنوات، وندافع عن اختياراته الجمعية وخاصة التي يسجلها الصندوق
الانتخابي، ولا نجبره أو نضطره للنزول إلى الشارع حال عدم فهم رسائله ومطالبه لأن
كلفة الثورات لن تتحملها ميزانية المصريين مرة ثالثة. وعلى الرئيس والدولة تفعيل
أجهزة الاستشعار المجتمعي المتمثلة في مراكز الأبحاث الإستراتيجية وبحوث الرأي
العام وأجهزة الأمن القومي وقبلهما الإعلام القوي الحر والمحترم لإستيعاب وفهم
رسالة ما حدث في الإنتخابات، والإجابة على السؤال الأهم، ماذا يريد المصريين؟.
وعلينا جميعا أن ندرك أن الشعب المصري أجيال تتوالى
وتتواصل، وأن هناك أجيال شابة لا تقبل الصورة التقليدية للسلطة ولا النمط القائم للحكم،
وهذه الأجيال تقترب من أن تكون هي الكتلة الرئيسية والوحيدة لهذا الشعب، ولن تسمح
لأحد أن يسلبها حريتها أو أن يكون وصي على اختياراتها، هذا الأجيال تحتاج إلى فهم
حقيقي لأنها ستحمل لافتة كبيرة مكتوب عليها "شعب مصر".