أشتاق إلى
الصحافة «المطبوعة» شوق العاشق الصوفي لـ «حضرة» الصفاء والمناجاة، لقد مر علي
أكثر من 100 يوم لما تطالع عيني حبر المطابع المرسوم على صفحات الورق، ولم يستنشق
صدري «عطر الجريدة» وعبيرها، بعد أن اكتفيت بفعل «الجائحة» بالمتاح من وسائل
الإعلام عبر خدمات «الأونلاين» الباردة.. الخالية من أي «روح» صحفية.
لقد اشتقت إلى
«الأهرام» وخصوصاً «عدد الجمعة»، وإلى «الشرق الأوسط» وملاحقها الدسمة، وزخم
«أخبار اليوم» الذي يختزل أسبوع في ساعات قليلة من القراءة والمتعة، ورشاقة
«المصري اليوم» وسحرها اليومي الذي لا تروق الحياة بدونه، وشقاوة «الدستور» التي
تمنحها مشاغبات محمد الباز ورفاقه قوة وتأثير، وطلة «روزاليوسف» المجلة الأسبوعية
العريقة التي تنحت في صخور المهنة بسواعد أبنائها المحترفين يقودهم (المحترم) هاني
عبد الله، ودفء «نص الدنيا» الذي رسخته أستاذتنا (القديرة) سناء البيسي ومتعة
«أخبار النجوم» التي جددها (المحترف) إسلام عفيفي وعمق «الأهرام العربي» التي
أعادها للأضواء باحترافية (الماهر) جمال الكشكي.
هذه الأسماء
السابق ذكرها هي أخر ما توقفت عنده ذاكرتي المطبوعة قبل الجائحة، هناك صحف ومجلات
أخرى كنت أتابعها سنوات طويلة لكنها سقطت من الاهتمام بسبب تراجعها أو لأنها أغلقت
أبوابها أمام قرائها بسبب الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها غالبية وسائل
الإعلام.
لن أثقل عليكم
بحديث مكرر عن نهاية عصر «الصحافة المطبوعة»، ولن أزيدكم عن أحوال المهنة وأبنائها
الذين سقطوا بين شقي رحى ثورتي السياسة والتكنولوجيا، فأصبحت المهنة «رذيلة» هذا
الزمان في نظر الأحباب قبل الأعداء.. فقط أذكركم ونفسي بأنها رغم كل ما يواجهها ما
زالت تتمتع ببريق الذهب الذي لمع في عيوننا ونحن صبية نحبو في بلاط صاحبة الجلالة
فاخترناها قدراً ومهنة وطريق شاق لا نحيد عنه مهما كانت المتاعب، وما تزال
«الصحافة» حلم يراود الآلاف من شبابنا الذين يتزاحمون هذه الأيام على أبواب كليات
الإعلام بحثاً عن مستقبلهم فيها، والذي نتمناه لهم أفضل مع مهنتنا التي تستحق أن
تكون حريتها تاج على رأس كل دولة.
ولأني ارتبطت
بصاحبة الجلالة مسحوراً بكلمات الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي، الذي علمني «ما معنى
الكلمة»، فكانت الكلمة محوراً لمقالي الأول الذي نشر في أبريل عام 1994 في الصفحة
الأخيرة من العدد الأول لمجلة «كلام»، التي كنت رئيساً لتحريرها..
أتعرف ما معنى
الكلمة؟
واقتبست في مقالي
من مسرحيته الشهيرة «الحسين ثائراً»، الكلمات الغالية التالية: «مفتاح الجنة في
كلمة، ودخول النار على كلمة، وقضاء الله هو كلمة. الكلمة لو تعرف حرمه زاد مزخور،
الكلمة نور.. وبعض الكلمات قبور، وبعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري.
الكلمة فرقان بين نبي وبغي، بالكلمة تنكشف الغمة، الكلمة نور، ودليل تتبعه الأمة،
عيسى ما كان سوى كلمة، أضاء الدنيا بالكلمات، وعلمها للصيادين فساروا يهدون
العالم. الكلمة زلزلت الظالم. الكلمة حصن الحرية، إن الكلمة مسؤولية، إن الرجل هو
كلمة، شرف الله هو الكلمة».
فكانت «شرف الله هو
الكلمة»، النور الذي أضاء طريقي في دهاليز الصحافة وأروقتها خلال ربع قرن من العمل
الصحفي.