تساؤل منطقي طرحه الصديق الإعلامي أحمد الطاهري قبل أيام عبر حسابه على
موقع «الفيس بوك» حول مشروعية اعلانات الجمعيات الخيرية في الفضائيات غير المصرية،
والتي تصل بحسب تقديره إلى «300 ألف جنيه عن كل إعلان»، وما يعنيه ذلك من تبخر ملايين
التبرعات المصرية وتحويلها خارج مصر، وما يعنيه ذلك اقتصاديا.
ورددت عليه قائلاً: «اتحدث منذ سنوات في هذا الأمر واكتب مقالاً سنوياً كل
رمضان عن «أموال الصدقات».. لعل دافعي الزكاة ينتبهوا.. والدولة تتدخل.. تحدثت عن
كثافة الإعلانات التليفزيونية ومشاركة بعض هذه الجمعيات في إنتاج برامج ومسلسلات رمضانية..
إنها أموال مهدرة سيحاسبنا الله جميعا عليها وخاصة في عامنا هذا.. «عام الكورونا»،
الذي يتسول فيه الجميع، غنيهم قبل فقيرهم».
وسبق أن كتبت قبل عامين مقالا في «صوت الأزهر»، بعنوان «الصراع السنوي على
أموال الصدقات»، بعد أن تحول الأمر إلى ظاهرة مقلِقَة، أصبحَتْ تُطارِدُنا في
الطرقات وعلى الفضائيات، إلحاح مستمِرّ ودعوات مختلفة للتبرُّع، تتخِذُ كلَّ أشكال
التأثير الممكنة، حتى وصل الأمر إلى إسهامِ أحد المستشفيات (وقتها) في إنتاج مسلسل
دراميٍّ تمَّ تصويرُه بداخلِها كجزءٍ من خطةِ تسويقِها، التي تهدفُ إلى مزيدٍ من
التبرُّعاتِ.
وكان مما ذكرته في المقال: لا شَكَّ أن حجم الأموال المقدَّرَةِ لتبرعات
المصريينَ من الزكاةِ والصدقاتِ، التي تقترب من الملياراتِ الأربعةِ خلال رمضان
فقط (والرقم على عُهدةِ صحيفة «المصري اليوم»)، تثير شَهِيَّة الكثيرين، وتدفعُهم
للتكالُبِ عليها، وهي أموال للأسف لا يعلم من تبَرَّعوا بها أوجُهَ صرفِها، ولا
يعلمون أيضًا أن جزءًا معتَبَرًا من هذه الأموال أصبحَتْ تلتهِمُهُ الفضائيات
المصرية على سبيل الإعلانات، بدلًا من أن تصل إلى مستحقيها الأصليين وفق النص
القرآني في سورة التوبة: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ
عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ»، صدق الله العظيم.
وأذكر أنني في عام 2013، دخلت في نقاش (فيسبوكي) آخر مع الكاتب الكبير والصحفي
القدير الراحل عبد الله كمال، حول قضِيَّةِ التبرُّع بأموال الزكاة والصدقة إلى الجمعيات
الخيرية في ظِلِّ ما أثير حول انتماء بعض هذه الجمعيات وتبعيَّتِها لجماعة الإخوان
المسلمين (المحظورة)، كنا في أوائل شهر رمضان الذي بدأ عَقِب أيام قليلة من بيان
(3 يوليو) الشهير ثمرةَ ما سُمِّيت بـ(ثورة 30 يونيو)، التي عزَلَتْ محمد مرسي وأسقطَتْ
جماعَتَه، فانكشَفَتْ مع هذا السقوطِ شبكةُ العلاقات الداخلية والخارجية (الأخطبوطية)
التي شَكَّلَتها هذهِ الجماعة المارقة لتدعمَ وجودها السياسي والاجتماعي
والاقتصادي، وفضحت خيوط الشبكة هيمنتها على جزء كبير من أموال الصدقات عن طريق
جمعيات شرعية مشهرة ومنتشرة في ربوع مصر، مما استدعى من الدولة مصادَرَة أموال عددٍ
من هذه الجمعيات حتى لا تُستغلَّ في تمويل أنشطة إرهابية.
وفي حواري مع الصحفي الراحل انبرى يُدافِعُ (اقتصادياً) عن أنشطةِ الجمعيات
وأن هناك ضرورةً مجتمعيةً لتصريف أموال كثيرة، يعجز أصحابها في الوصول إلى
مستحقيها وفق القواعد الشرعية، بينما كانت لي وجهة نظر (دينية) ربما يكون من
المفيد إعادة طرحها، تزامناً مع الضجة المثارة كل عام حول (الجمعيات) وأنشطتها
وأموالها.
في ظَنِّي أن على كل متبرع بالصدقات تأديةً لفريضة الزكاة (أو تطوُّع
الصدقة)، أن يبذلَ قدرًا من الجهد في توصيل هذه الأموال إلى مستحقيها، فليس الغَرَض
دفعَ المال فقط، ولكنّ هناك جزءًا تربويًّا شرعه الله في ركن «الزكاة» الذي هو من
أركان الإسلام الخمسةِ، وهذا الجزء لا يتحقَّق إلا بالسعيِ والاجتهاد للوصول إلى
مستحقيها، والتعامل معهم وإدراك حقيقة ظروفهم وأشكال معاناتهم، والتحرِّي عن ذلك
بالاتصال والتواصل المستمر معهم، إن هذه العلاقة من شأنها أن تصنع الكثير في
نفوسنا، سواء عند الغَنِيِّ أو الفقير.
وللأسف فإن قدرًا كبيرًا من الاستسهال عند كثيرٍ من القادرين، يتجسَّد في
اكتفائِهِمْ بتوزيع أموال الزكاة على حساباتٍ بَنكِيَّة تخصُّ جمعيات خيرية، ويظنُّون
أنهم هكذا قد قاموا بتطبيق الفريضة، ربما ألتمِسُ العذر لغير القادرين (صحياً) منهم،
أو الأثرياء الذين تُستَحَقُّ عليهم مبالغ كبيرة للزكاة يصعب عليهم تصرفيها بشكل
مباشر، لكن أن يكتفي المجتمع كله بالجمعيات، لتصريف أموال الزكاة، فتلك كارثة
كبيرة وما نراه هذه الأيام يصدق على صحة رأيي في ضرورة أن يجتهد كل فرد في تصريف
أموال زكاته بالبحث في محيطه عن مستحقيها.
بالطبع هذا لا يتنافي مع دورِ الجمعيات وأهميَّتِها، ولكنَّ عليها أن تجتهدَ
لتنمي موارِدَها، ولا تكتفي فقط بالتبرعات، فالعاملونَ على هذه الأنشطة المجتمعية
يُدرِكُون أن قانون تنظيم عملها قد أتاح لها وسائل متعددة لتقوم بتنمية مواردها.
والله وأعلم.. وكل عام وأنتم بخير.